فارس جميل

فارس جميل

الإصلاح ومعارك الاستحواذ الفاشلة

Monday 16 April 2018 الساعة 05:27 pm

مع تأسيس حزب التجمع اليمني للإصلاح من مركب رجال الدين ورجال القبيلة في سبتمبر 1990، تراجع خط القبيلة في الواجهة باستثناء الشيخ الأحمر، خاصة مع الانقلاب الناعم الذي حدث لصالح تيار الإخوان المسلمين داخل الحزب في مؤتمره العام 1994، وكان الإصلاح بعد تأسيسه مباشرة قد عبر عن رغبته في الاستحواذ على القرار القبلي بعقد مؤتمر الوحدة والسلام بصنعاء ردا على مؤتمر قبائل سبأ الذي عقد بمأرب للتعبير عن موقف سياسي للقبيلة تجاه حرب الخليج الثانية، وإن كان الموقف قريبا من موقف الشيخ الأحمر وحزبه لكنه لم يصدر بإملاء منهم، فاتهم منظموه بأنهم موالون للحزب الاشتراكي.
الحزب الاشتراكي الذي حاربه الإصلاح بدرجة فاقت درجة خلاف الاشتراكي الأساسي مع المؤتمر، والذي جاء بدوره في أحيان كثيرة لتقارب المؤتمر الضمني مع الإصلاح ومواقف الأخير المتشددة من الاشتراكي يومها، تلك الحرب التي بلغت ذروتها باستخدام السلاح في حرب صيف 1994، أراد الإصلاح منها بدرجة أساسية الاستحواذ على نصيب الاشتراكي في السلطة تحت غطاء الخلاف الفكري معه، ففي نفس الوقت اتهم الدكتور عبدالكريم الإرياني بالعلمانية وشن ضده حملة تشويه كبيرة وهو حليفه في تلك الفترة، إذ أراد أن يقود معركة ذات طابع فكري مع الاشتراكي وليست ذات طابع سياسي كما أراد الإرياني، فالأخير من دعاة الدولة المدنية التي لا يؤمن بها الإصلاح.

عندما كانت الحصة البرلمانية للإصلاح لا تؤهله للاستحواذ على إرث الحزب الاشتراكي في السلطة، ولم يجد معادلة مع المؤتمر لمنحه ما يريد من الحقائب الوزارية تحمل على مضض لفترة قصيرة، ثم عاد للتحالف مع خصمه (الاشتراكي) في حين لا زالت منازل قيادات الحزب بعدن تحت قبضة آل الأحمر.

خلال التسعينات لم يسلم من هجمات إعلام الإصلاح أي حزب قومي أو يساري، لكنه سعى لخلق تكتل معارض ضد حزب المؤتمر، ولم يكن أمامه غير الأحزاب التي يهاجمها على الدوام من أعمدة الصحف ومنابر المساجد، فتراجع خطابه العقائدي ضدها لصالح التقارب السياسي معها، لكنه أيضا أراد الاستحواذ على قرار مجلس تنسيق أحزاب المعارضة في أحيان كثيرة فلم تنجح التجربة.

قطع صالح عصا الوصل مع الإصلاح نهائيا بقرار إلغاء المعاهد العلمية في 2001، فألقى الإصلاح بثقله في اتجاهين بالتنسيق مع أحزاب اللقاء المشترك الذي انطلق عام 2003، الاتجاه الأول كان بشن حملات ضد رجال المؤتمر في السلطة بتهمة الفساد، والثاني ضد صالح شخصيا بتهمة التوريث، واشتدت وتيرة تلك الهجمات مع نتائج انتخابات 2003 التي لم يحصد فيها الإصلاح ما يؤهله للدخول في حكومة ائتلافية لحصول المؤتمر على الأغلبية في البرلمان.

بداية حرب الدولة مع جماعة الحوثيين منتصف 2004، كان موقف الإصلاح والمشترك مشككا في مبررات صالح لخوص الحرب ضد الحوثيين، فبدأ استغلالها كورقة لتشويه السلطة، إلى جانب التغني بالمعارضة الجنوبية ضد صنعاء، لكنه فشل في نقل تحالفه مع المشترك من القمة إلى القاعدة في انتخابات الرئاسة والمحليات 2006، ولم ينجح في الصناديق كما نجح إعلاميا، ليفكر بطريقة أخرى بالوصول إلى السلطة وقد بدا واضحا أن عقل الإصلاح وقراراته لم تعد بيد الشيخ الأحمر بل تصدر نجله حميد المشهد ليطغى في أوقات كثيرة على اليدومي ويظهر طموحه العاري إلى السلطة دون حصافة اليدومي ولا اعتدال الأحمر الأب.

في الساحات التي استحوذ عليها الإصلاح مطلع 2011، انفرد بالمنصات الإعلامية في كل ساحة وشكك بكل شركائه فيها، وتعامل كصاحب سلطة ناجزة يمن على شركائه بتقديمها لهم ولم يصل إليها بعد، وفي وقت بارك فيه سيطرة الحوثيين على صعدة وخروجها من مظلة الدولة، خاض معارك متعددة بالأيدي والعصي الخشبية ضد شركائه الحوثيين في ساحة التغيير بصنعاء.
كان للحوثيين مشروعهم ولم يكونوا مجرد حزب ديكوري لا تعلم قياداته ماذا تريد كأحزاب المشترك يومها، فعملوا بذكاء بالغ على استقطاب كل الغاضبين من هيمنة الإصلاح على الساحات وتخوينهم لشركائهم من الشباب المستقلين والقوميين واليساريين، وقدم أمامهم الفرص للظهور الإعلامي والسفر ومغرياته، واستطاع أن يستمر بنفخ قربة الإصلاح الثورية في هؤلاء حين أراد الإصلاح تنسيمها لتتوافق مع موقفه من المبادرة الخليجية، وبنقلة بسيطة أزاح الحوثيون الإصلاح من مربع المعارضة الجماهيري إلى مربع السلطة النخبوي بما يحمله من تبعات ومسؤوليات أكثر من المصالح.

في حكومة الوفاق الوطني برئاسة باسندوة تعرى الإصلاح من كل التزام لشركائه وبدأ التصرف ضدهم كصاحب فضل يجب أن يملي رغباته فينصاعون حامدين له وشاكرين حين يستحوذ على القرار بمفرده، ومع ابتكاره ما عرف بثورة المؤسسات ضد عناصر المؤتمر في المؤسسات الحكومية خسر كل من حوله ووقف عاريا يتحمل كل أعباء ومسؤوليات الحكومة أمام الرأي العام.

كان الإصلاح مستمرا في شن هجومه ضد صالح ورجاله واستعدى من بقي منهم لأقصى حد ممكن، ولم يكن صالح بالشخصية التي تمرر هكذا مواقف تمس به كشخص وليس فقط كرئيس سابق، فمن لم يجد السكينة ولا زال في موقع القوة ولديه خبرة عقود من العمل السياسي يمكنه اللعب بتناقضات واقعه، وهكذا فعل صالح وأصبح خصومه في الحروب الست وفي ساحات التغيير من الحوثيين حلفاء مرحلة يمكنهم تجاوز كل محاذيره والتقدم خطوات كثيرة على ما يمكنه القيام به بشكل منفرد وواضح.

كما فعل الإصلاح بالتحالف مع الاشتراكي بعد صراعه معه لسنوات فعل صالح بالتحالف مع الحوثيين بعد حربه معهم لسنوات، وثوب السياسة فضفاض وواسع لاحتمال هكذا تغيرات في ممارسة العمل السياسي، وإن كانت مخاطره مميتة أحيانا.

بعد تدخل التحالف عسكريا في اليمن، وانتقال قيادات الإصلاح إلى السعودية والاعتراف بمظلة هادي ليس لرفعها ولكن للاحتماء بها، فشل الإصلاح من التعلم من دروسه القديمة بخسارته لحلفائه، لكنه استفاد من تجربته الفذة في تحويل حلفائه إلى خصوم، فأصبح وحيدا أمام مربع خصوم من جميع الجهات سواء من القوى اليمنية أو دول التحالف، إضافة إلى خصمه الأساسي المهيمن في صنعاء من الحوثيين، وزاد موقفه حرجا وحساسية بعد خلافات قطر مع جيرانها في التحالف. 
لم يستطع الإصلاح الاستفادة من تغيرات صنعاء في ديسمبر 2017، فقد صعب عليه أن ينتصر صالح على الحوثيين بعد فشله لسنوات في نفس الاتجاه، تخيل نفسه وقد عاد إلى مربع 2011، فكان المشهد قاسيا بعد كل ما قدمه من تضحيات وتعرض له من خسائر، وإن لم يكن الأمر بعيدا عن الثارات الشخصية لقيادات إصلاحية مع صالح تغلبت على أبجديات السياسة بقوة.

مع انتقال طارق صالح إلى الجنوب وإعادة تشكيل قوات عسكرية لقتال الحوثيين وهم كما يفترض خصوم الإصلاح الذين يجب أن يدعم أية قوة تقف ضدهم، لم يحتمل الإصلاح ذلك أيضا، فعلاقته بالإمارات ومخاوفه منها عززت مخاوفه من إعادة تجبير كسور المؤتمر وقوات الجيش الموالية لصالح ونجله.

من تعز أطلق الإصلاح آخر صيحاته في خلق الخصوم وخسارة الحلفاء، وفقدان بوصلة المشهد على الأرض، فقد أخرج مظاهرات ضد تواجد قوات طارق في الشاطئ الغربي، رغم أنها ذاهبة للعمل على تقليص خريطة السيطرة الحوثية، وتحقيق أهداف واضحة تتوافق كليا مع أهداف الإصلاح المعلنة بإزاحة الحوثيين من السلطة التي وصلوا إليها بالقوة.

يعلم الإصلاح أنه ينطلق من معطيات ذاتية في موقفه من قوات طارق، وليس من معطيات موضوعية ونفعية كما يتطلب العمل السياسي ناهيك عن العمل الوطني، فقوة الإصلاح حاليا تكمن في دعمه لشرعية هادي كحزب كبير وذي حضور على الأرض، واستعادة المؤتمر لقوته ودوره سيفقده هذه الميزة، بحيث تعفي التحالف من محاذيره تجاه الإصلاح في حال تم إقصاء الحوثيين من مربع السلطة، لوجود بديل جاهز وأكثر مرونة وخبرة وقبولا شعبيا وإقليميا، لكنه يتصرف بما يعزز تلك المخاوف لا بما يعمل على تخفيف حدتها أو إزالتها من عقل التحالف.

أمام الإصلاح الآن خيارات متعددة، كل منها أشد خطورة على مستقبله من الآخر، فقد يتحالف مرة أخرى مع الحوثيين كما تحالف مع الاشتراكي من قبل، وبنفس المبرر وهو مواجهة المؤتمر وصالح أو أسرته حاليا، وبتنسيق قطري بحكم علاقتها بالطرفين، وهذه ضربة قاضية يسددها الإصلاح في وجهه بقبضته هو، لأن علاقات دول الإقليم حاليا قد يتغير بأي وقت ويجد نفسه دون سند قطري، ولأن التحالف البراجماتي مع الحوثيين لا يعني تجاوز تاريخ الخصومة والدماء على الأرض في حال قبل الحوثيون بهكذا مخاطرة بدورهم، ولأن قدرة الإصلاح على إقناع قواعده بهكذا تحالف قد تكون منعدمة فيفقد حضوره وعناصره، وفي خيار آخر قد يخرج عن سياسات التحالف ليشكل محورا مستقلا بدعم قطري أيضا، وهذا يرفع عنه غطاء الشرعية ويسلط عليه غضب التحالف ويجعله أكثر عزلة وخصومات محلية وإقليمية، وفي كل الأحوال سيؤدي أي من السيناريوين السابقين إذا افترضنا جدلا إمكانية تحققهما، إلى إطالة أمد الصراع اليمني وتفتيت البلد دون انتصار واضح لأي طرف، ولن يستفيد الإصلاح أية ميزة أو مكسب من أي منهما على المدى البعيد بقدر ما سيتعرض له من خسائر.

إذا، فإن خيارات العقل وأبجديات السياسة بل ونظرية الإصلاح نفسه عن درء المفسدة وجلب المنفعة، تقول إن على الإصلاح في أقل تقدير الصمت تجاه تحركات طارق، بل والعمل على مساعدته فهو بمفرده ليس قوة عظمى في كل الأحوال ويحتاج إلى شركاء في مساعيه المعلنة، إن لم يقدموا العون فيجب ألا يسببوا العراقيل، وعند إخراج السلطة من قبضة الحوثيين واستعادة صنعاء وباقي البلد إلى إطار مهما كان شكله وأطرافه إلا أنه لا يمنح الحوثيين تفردا بالسلطة على الأرض بقوة السلاح، يمكن الاتفاق على شكل هذا الإطار وأطرافه والتزاماته بضمانات معينة من دول التحالف، أو حتى باتفاق مسبق ومرحلي، فهل ينجح الإصلاح بحجمه الكبير وحضوره الواسع وتجربته الطويلة في التعامل مع معطيات المشهد اليمني بما يجنبه أكبر قدر من الخسائر، أم أنه سيسعى للحصول على أكبر قدر من المصالح التي لم تعد ممكنة ولا متاحة في الوقت الراهن؟!