محمد عزان
«الاصطفاء».. فكرة التّكليف وعصبية التّحريف
في عدة مناسبات ذكر القرآن أن الله اصطفى بعض الخلق سواءً أكانوا من البشر أم من غيرهم، فقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} وقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}. و{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
ومن خلال تلك الآيات تسلل دعاة العصبيات إلى عقول المتدينين ليؤكدوا أن ليس لأحد إلا التسليم والقبول بمبدأ الاصطفاء، ثم يقدموا عصبياتهم الخاصة على أنها من الأشياء التي اصطفاها الله، ويرهبوا البسطاء بـأن عدم تقبل ذلك عصيان لله، ومن يعصِ الله ورسوله فقد خسر خسراناً مبينا!!
وهنا ننبه على أن خلافنا مع دعاة العصبيات ليس في وجود الاصطفاء كمصطلح مستخدم في القرآن والسنة وسائر كلام العرب، ولكن الخلاف معهم في ثلاث مسائل، الأولى: معنى الاصطفاء في القرآن. والثانية: من هو المصطفى؟ والثالثة: دعوى الاصطفاء لفئة معينة على أساس عِرْقي.
(المسألة الأولى): ورد الاصطفاء في القرآن في «أربع عشرة آية»، منها أربع في سياق الإنكار على من زعم أن الله اصطفى البنين على البنات أو اختصهم بالبنين وترك لنفسه البنات.
بينما تتحدث العشر الآيات الباقية عن الأنبياء وما يتعلق بهم، وجميعها يشترك في معنى «التعيين لمهمة ما»، كما في قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي}. وقوله في إبراهيم: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}. وقوله في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}. وحدد لطالوت مهمة فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}. وعن مريم قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}.
فالقضية، إذاً، ليست مجرد منحٍ تشريفية ولكنها تكاليف بمهام، يتوقف الثواب والتميز على إنجازها، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.
(المسألة الثانية): لم يترك القرآن مسألة الاصطفاء للدعاوى والمزاعم تصُول فيها وتجول، ولكنه ضبطها بالتسمية والوصف، كما فعل مع آدم ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وطالوت ومريم، وأجْمَل بقية الأنبياء بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}. فقوله: «الذين اصطفى» إشارة بصيغة الماضي إلى أشخاص معروفين سبق ذكرهم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}، ونحو ذلك.
(المسألة الثالثة) حاول أدعياء الاصطفاء حشر أنفسهم في موضوع الاصطفاء وإخراج غيرهم، وهو ما ظل الأخ حسين الحوثي يكرره ويعيده، ليسجل «أعْلَامه» فقط دون سواهم في قائمة المصطفين! وتمت تلك المحاولة من خلال نصين:
(أحدهما): قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}، بحجة أنهم من آل إبراهيم. وتلك حجة ضعيفة؛ بل واضحة البطلان، من أوجه منها:
(1) أن آل إبراهيم وآل عمر في الآية هم مجموعة الأنبياء من آل إبراهيم وآل عمران، بدليل قوله: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}. ولا يصح أن نعتبر الاصطفاء واقعاً لجميع ذرية إبراهيم وعمران، كما لا يصح تخصص بعضهم للاصطفاء على أساس عرقي، فالأمر محسوم بـ{لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
(2) تخصيص «آل إبراهيم وآل عمران» بأنهم «أبناء علي وفاطمة» رضي الله عنهما مجرد دعوى، لا تسند إلى نص من القرآن، ولا يصح أن نلجأ لتطويع القرآن بقصص وروايات تاريخية، أقل ما يقال فيها: إنها تلفيقات انتجتها الصراعات العصبوية المُزمنة. وحتى لو أمكن صرف «آل إبراهيم» إلى «آل محمد» على أساس عِرقي، فلن يكون ذلك ممكناً في «آل عمران»؛ بل يلزم أن يكون «آل عمران» في عصرنا حاخامات بني إسرائيل وقياداتهم السياسية، أمثال «شمعون بيريز، بنيامين نتنياهو، أفيغدور ليبرمان»، ومن على شاكلتهم!
(ثانيهما): قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}. يقولون إنها نزلت في «أهل البيت» المتمثلين في علي وفاطمة وأبنائها، وذلك غير صحيح من عدة أوجه:
(1) أن الآية من سورة (فاطر)، وهي مما نزل في مكة، أي: قبل أن يتزوج علي من فاطمة الزهراء رضي الله عنهما، وقد جاءت الآية بصيغة الخبر عن الماضي. مما يؤكد أنها تتحدث عن أنبياء الأمم السابقة!! كما هو واضح في قوله تعالى عن بني إسرائيل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ}. وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى}.
وذلك لا يمنع من أن يكون حال أمتنا كحال الأمم السابقة في تكليفها بمهمة تبليغ كتاب نبيها وتقديمه للأجيال اللاحقة والأمم الأخرى. وبذلك يتعلق الاصطفاء بمستوى إنجاز المهمة، ويشارك في ذلك جميع القادرين من أي عشيرة أو بلد كانوا. وهذا هو الذي يتلاءم مع نص قول: {.. فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير}.
(2). لم تُشر الآية من قريب ولا من بعيد إلى أن للاصطفاء فيها علاقة بأي نوع من أنواع العصبيات، ولكنها مَنَحت «الفضل العظيم» للسابق بالخيرات فقط، فقالت: {.. فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير}. تماماً كقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}. ولا ينبغي أن نطوع القرآن بروايات وقصص توجه الآية لتمضي خارج السياق الموضوعي للنص، خصوصاً أن التدقيق فيها يكشف أنها أتت ضمن موجة الدعاية الإعلامية التي خاضتها العصبيات الاجتماعية في القرنين الأول والثاني من الهجرة.
وخلاصة القول: إن الاصطفاء عبارة عن تكليف بمهمة معيّنة، ينجزها الأكفاء السابقون، ويتخلف عنها الكسالى القاصرون، سواءً كانوا جماعاتٍ أو فرادى، رجالاً أم نساء. وليس لأحد أن يدعي أنه شريك الأنبياء في مهامهم الخاصة، ولا أنه يحتكر أي نوع من أنواع التكليف أو الفضل والتميز لجنسه أو عِرقه، وإن كان ابن ماء السماء أو من سلالة النار أو النور.