لأشهر خلت، لم يكن أحد يدري ما تمثله الحركة الحوثية في اليمن. كانت النظرة لها تندرج في سياق الفصائل القبلية والسياسية المتعددة التي يتضمنها المجتمع اليمني. بعد التطورات السياسية الأخيرة وتقدّم الحوثيين في أكثر من منطقة، وخصوصاً استيلاءهم على العاصمة صنعاء، وإعلانهم مشروع دستور جديد، واعتبار حركتهم ثورة حقيقية قام بها الشعب اليمني لتحقيق الإصلاح والقضاء على الفساد...، طرحت أسئلة كثيرة عن هذا الانقلاب في موازين القوى لمصلحة الحوثيين.
صحيح أن هذه الحركة قامت بانقلابها بالتعاون مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وبالاستناد إلى دعم إيراني معلن، إلا أن ذلك طرح في شكل أكثر حدة ضرورة فهم العوامل الداخلية البنيوية، التي كانت وراء صعود الحركة الحوثية. افتقرت المكتبة العربية إلى دراسات موضوعية حول التكوين البنيوي للمجتمع اليمني، لكن كتاب الدكتور سعود المولى: «الحوثيون واليمن الجديد، صراع الدين والقبيلة والجوار» (الصادر عن «دار سائر المشرق» - لبنان) أتى يسد فراغاً معرفياً حول الحركة الحوثية في سياق التكوّن البنيوي لليمن، مما جعله مرجعاً يحتاجه اليوم أي باحث أو راغب في معرفة ما يجري في اليمن.
يشير المولى في مطلع كتابه إلى الظاهرة الحوثية فيقول: «إن الحركة الحوثية نشأت كتيار فكري سياسي ثوري متأثرة بالثورة الإيرانية وبمفكريها الكبار في بداياتها الوطنية الإسلامية من جهة، كما أن هذا التيار ارتبط أيضاً بما عرف بالصحوة الإسلامية العامة (السنية الحركية الطابع) التي شهدها الوطن العربي منذ مطلع الثمانينات من القرن العشرين من جهة ثانية. هذه الحركة ذات المنشأ الإسلامي النهضوي العام، تحولت إلى أن تكون ظاهرة طائفية تستعيد تجربة حزب الله اللبناني لجهة بناء منظمة سياسية أيديولوجية تمثل رأس الرمح لزيدية سياسية تعمل على المحاصصة الطائفية في النظام السياسي اليمني الجديد، وتمتلك في الآن نفسه استراتيجية واضحة للهيمنة وليس للمشاركة الحقيقية، وذلك على غرار الشيعية السياسية في لبنان، وفي تقليد شبه حرفي لمسارها الأخير».
من أجل فهم أوسع للظاهرة الحوثية، يغوص سعود المولى في دهاليز البنى اليمنية، الطائفية منها والقبلية. من الطبيعي أن يبدأ في تحليل وشرح المذهب الزيدي في اليمن الذي ينتسب إليه الحوثيون. ينسب هذا المذهب إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين. يقول الزيديون بفكرة استمرار وجود الإمام وليس غيبته، ويتبنون مقولة الخروج والثورة على الحاكم الجائر. في هذه المسألة يفترق الزيديون عن سائر فرق الشيعة خصوصاً منها الإثني عشرية التي تصر على وجود المهدي وغيبته وبالتالي انتظار ظهوره. وفي العودة إلى الزمن القديم، ينسب إلى الإمام زيد تأسيسه لفرقة المعتزلة إلى جانب واصل بن عطاء، يستدل الباحثون على ذلك من اعتناق الزيدية والمعتزلة للأصول الخمسة: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ينفي علماء الشيعة معتزلية زيد، ويشددون على أن مرجعية مختلف الفرق تعود إلى أصل فكري واحد هو الإمام علي بن أبي طالب. وإذا كان زيد هو من وضع أسس المذهب الذي نسب إليه، إلا أن المقولات الفكرية المنتسبة إلى الزيدية جمعت على يد تلامذته بعد وفاته، مما يطرح شكوكاً وغموضاً حول بعض جوانبها التي يختلط فيها الفكر الزيدي بالفكر الشيعي الإمامي الإثني عشري.
يشير الكاتب إلى أن الفكر السياسي الزيدي «جمع بين الاتجاه الشيعي الإمامي عن طريق الجارودية، والاتجاه السني الفقهي عن طريق أبي حنيفة ممثلاً في الصالحية والسليمانية، إضافة إلى تيار المعتزلة عن طريق واصل بن عطاء (وربما زيد نفسه). وفي ذلك أمكن للبعض القول أن الزيدية معتزلة في الأصول، أحناف في الفقه والفروع». وذهب باحثون إلى القول إن الزيدية هي في الأصل فرقة معتدلة ومنفتحة على مختلف المذاهب، وترفض الانغلاق والتعصب. وهي امتنعت عن المغالاة في تشيعها لعلي وآل البيت، وتجنبت الدخول في الخلافات التي عصفت بالتيارات الشيعية. وعلى المستوى الفقهي والاستنباط التشريعي حاولت أن تأخذ من مناهج مختلف الفرق الإسلامية. بعد التحولات التي عرفتها الزيدية، خلصت إلى قواسم مشتركة في توجهاتها العقائدية، وذلك باتفاقها على أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة عبر التأكيد أن هذه الخلافة منصوص عليها من قبل الرسول، كما يقول الزيديون بخطأ المتقدمين على علي والذين واجهوه أو قاتلوه.
ولفهم أكبر للمجتمع اليمني، يولي الكاتب أهمية للتشكيل القبلي حيث «يتصف المجتمع اليمني في شكل عام بأنه متعدد الجماعات، ولعل أوسع أشكال التعدد هو التعدد القبلي. ويشكل أبناء القبائل حوالى 85 في المئة من سكان البلاد. وقد مثلت القبيلة إلى حد كبير ثقافة وهوية وأسلوب حياة عبر التاريخ اليمني. والقبيلة، سوسيولوجياً، هي جماعة تربط أعضاءها صلات الدم والقرابة، والإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وأسلوب المعيشة والقيم، ومعايير السلوك المشترك، وهيكل السلطة الداخلية». يتفق الباحثون على أن اليمنيين كلهم ينتمون اليوم إلى خمسة اتحادات قبائل هي: حمير، مذحج، كندة، حاشد، وبكيل.
عرف تاريخ اليمن صراعاً متواصلاً بين قبائله على الموارد والسلطة، تفاوتت درجة الصراع بين إقليم وآخر تبعاً للموارد الموجودة. في ظل الصراعات القبلية جرى بناء الدولة اليمنية الحديثة على نمط تركيب القبيلة نفسها، «حيث باتت موارد الدولة كما لو كانت مملوكة لرؤوس النظام. فالسلطة في مؤسسات الدولة هي لأفراد وليس لمؤسسات. وقد بنيت إدارة تقوم على تركيز السلطة في الرأس، كما ونظمت عمليات الوصول إلى مواقع السلطة السياسية والإدارية على أساس المكانة الاجتماعية التقليدية الموروثة. فباتت الدولة منظمة وفقاً لتراتبية تشبه التراتبية القبلية، فشيوخ القبائل وأبناؤهم يحتلون مواقع السلطة العليا، فيما أبناء القبائل والمواطنون العاديون يحتلون مواقع تنفيذية. فمن بين محافظي المحافظات الـ21 مثلاً، كان هناك على الأقل 17 محافظاً من عائلات مشيخية».
شكلت ثورة 1962 منعطفاً في تاريخ اليمن وفي تركيب السلطة، فقد فتحت الثورة الطريق أمام شيوخ القبائل لممارسة دور سياسي والمساهمة في صنع القرار السياسي، وهو الأمر الذي كان ممنوعاً عليهم أيام حكم الإمامة، ساعد على ذلك أن قادة الثورة كانوا في حاجة لتعبئة القوى وحشدها خلف الانقلاب في مختلف المناطق. هكذا استمالوا الشيوخ وقبائلهم للدفاع عن الثورة ومواجهة القوى الملكية. ساعدت في تطلع الشيوخ للعب دور سياسي آنذاك تركيبة المجتمع اليمني وضعف مساهمة قواه في النشاط الاقتصادي وغياب قوى سياسية جماهيرية منظمة وفاعلة. هذا الطموح اصطدم بالتواجد العسكري المصري الذي كان يحتكر القرار السياسي إلى حد بعيد. لكن ثورة 1962 تركت أثراً كبيراً على الزيدية نفسها، فقد أدت الثورة إلى تصفية العشرات منهم جسدياً، كما وضع بعضهم في المعتقلات والسجون. لكن الأخطر بالنسبة للزيدية كان انهيار نظام الإمامة، وهو انهيار شكل تهديداً وجودياً للزيدية بما هي مذهب فكري سياسي. في الثمانينيات من القرن الماضي، سيشهد اليمن تحولات في تشكيلاته السياسية لعل أهمها ظهور طفرة في تعدد الأحزاب. تأسس في تلك الفترة اتحاد الشباب الزيدي الذي كان مؤسسه قد تتلمذ على إحدى القيادات الحوثية، وأعلن صراحة تأثره بالثورة الإيرانية. وفي فترة لاحقة تجدد النشاط على يد مدرسين منهم بدر الدين الحوثي. وبعد الوحدة اليمنية تحول «اتحاد الشباب الزيدي» إلى مشروع سياسي حمل اسم «حزب الحق» الذي أعلن صراحة تبنيه للفكر الزيدي الفقهي والسياسي.
بعد سياحة واسعة في التشكيلات الاجتماعية لليمن، يعود الكاتب إلى التوقف مطولاً عند الظاهرة الحوثية، هذه المرة من حيث باتت عنصراً فاعلاً في السياسة اليمنية ومن خلال التوجهات الجديدة لبعض قادتها والخلافات المذهبية داخل الحركة نفسها. فمنذ بروز نجم حسين الحوثي سياسياً، بدا كأنه يغرد خارج بعض الآراء السائدة في المذهب الزيدي، مما جلب عليه سخط بعض علماء الزيدية. توسع السجال داخل الحوثية حتى وصل الأمر بعبدالملك الحوثي إلى القول: «لا يوجد عندنا مرجعية واحدة للزيدية، مراجع الزيدية علماء كثر». لكن الحوثية ازداد وهجها منذ مطلع هذا القرن بعد التحولات السياسية التي رافقت إطلالتها خصوصاً بعد التزام الشعارات الإيرانية حيث بات الشعار الحوثي: «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام». هذا الشعار أطلقه حسين الحوثي كجزء من التعبئة والتحريض في وجه «الاستكبار الأميركي».
لم تكن اندفاعة التيار الحوثي منعزلة عن الدخول الإيراني بقوة إلى هذه الحركة. سعت إيران وبوسائل شتى، على المستوى الرسمي أو على مستوى بعض المرجعيات للتمدد انطلاقاً من عقيدة تصدير الثورة. ازدادت الإعلانات عن تبني قيادات ومجموعات يمنية للمذهب الشيعي الإثني عشري، كما لم يعد آخرون يتحرجون من «إعلان تشيعهم الجعفري وذلك في بعض الخطب المنبرية ودروس المساجد، والقيام بالتبشير بالفكر الإثني عشري عبر التوزيع المجاني للإصدارات الشيعية الإيرانية واللبنانية. وفي هذا السياق لفت الانتباه صدور بيانين عن الحوزتين العلميتين في النجف وقم في بعض مراحل الحرب الحوثية، وصفاً تلك الأحداث بأنها اضطهاد للشيعة في اليمن بقسميها الزيدي والإمامي الإثني عشري».
لكن صعود الحوثية وتحولات بعضها إلى الشيعية الجعفرية لم تمر من دون أثر سلبي على انتمائها الزيدي، حيث باتت الشقة بعيدة بين العقيدة الأصلية والعقيدة الوافدة. اعتبر بعض القيادات الزيدية الحوثيين فئة ضالة، وجماعة مارقة تسعى إلى العودة بالبلاد إلى ما قبل أيلول (سبتمبر) 1962، وقاموا بجرائم في حق المواطنين وأبناء القوات المسلحة. يقول أحد رجال الدين القاضي أحمد العنسي: «جماعة الحوثي خرجوا من إطار مذهب تلك البلاد، وهو المذهب الزيدي، حيث قاموا بطباعة الملازم المخالفة لقواعد الزيدية وضمنوها آراء وأقوالاً ملفقة استطاعوا من خلالها التضليل على العديد من الشباب وقاموا بإغرائهم بالمال، وقاموا بالقتل والتنكيل بالمواطنين، وأصدروا الفتاوى الجائرة للنيل من المخالف لأفكارهم الإجرامية التي خرجوا بها عن الطريق السوي، وفارقوا الجماعة وعاثوا في البلاد الفساد، وعملوا على قطع الطرقات ونهب الممتلكات العامة والخاصة وأخرجوا المواطنين من منازلهم وصادروا أموالهم».
أدت تصرفات الحوثيين إلى ردود فعل متنوعة داخل اليمن خصوصاً بعد التجاوزات التي طالت زعماء القبائل وشيوخها، وهي ردود فعل سيكون لها أثرها على مستقبل العلاقة بين الحوثية والتركيبة القبلية في اليمن. لقد خلفت الحروب الحوثية أحقاداً وثارات مع شيوخ ووجهاء وتجار ورجال أعمال. فاقم الأمر استغلال الحوثيين لغياب الدولة فعمدوا إلى الثأر من خصومهم، وعمدوا إلى تدمير ممتلكاتهم ونهبها وإحراقها. كما قام الحوثيون بالثأر والانتقام من القادة والضباط العسكريين الذين شاركوا في الحروب السابقة ضدهم.
أي مستقبل للحركة الحوثية في اليمن؟ ما الذي بمقدورها القيام به، وما المستحيل في ذلك؟ سؤال مطروح بقوة اليوم بعد التطورات السياسية التي شهدتها اليمن واحتلال الحوثيين للعاصمة نفسها وسعيهم إلى الهيمنة على البلاد كلها. يختم سعود المولى بهذه الرؤية لمستقبل الحوثية حيث يقول: «إن استراتيجية أنصار الله الفعلية ليست إقامة دولة إمامية زيدية، فهذه الدولة غير ممكنة لأسباب تاريخية – جغرافية أولاً، تتعلق بحجم الهاشميين في اليمن الجديد وانحصارهم في الشمال وفي صعدة تحديداً، وبطبيعة الانقسامات العقائدية والسياسية والعائلية التي تخترق بنيتهم القبلية المذهبية. ولأسباب جيوستراتيجية ثانياً، تتعلق بوضع اليمن على باب المندب وعلى تماس مع دول مجلس التعاون الخليجي ومع السعودية خصوصاً، وكونه ساحة أساسية للحرب الأميركية ضد القاعدة والإرهاب. كما لا يستطيع أنصار الله المشاركة السياسية الديموقراطية المتساوية في الحكم، إذ إن المشاركة الفعلية تعني البدء بالانخراط الفعلي في الدولة سلمياً وترك السلاح والحرب».
كتاب «الحوثيون واليمن الجديد» حاجة ماسة لمن يرغب في معرفة العوامل الكامنة وراء أحداث اليمن، والتناقضات التي تلف القوى السياسية والقبلية، ومستقبل الصراعات في المرحلة المقبلة من تطور اليمن والمنطقة العربية على السواء.
* كاتب لبناني
* نقلا عن صحيفة الحياة