خمسة مفاهيم تُرعب أنصار الحوثي، وتجعلهم يستنفرون طاقاتهم وإمكاناتهم لمحاربتها؛ لأنها تعارض فكرة الاصطفاء ولا تتلاءم مع مشروع الولاية والانقياد، وبالتالي يرون أنه لابد من مواجهتها وإبعاد الناس عنها بشتى الوسائل:
«الديمقراطية»..
«تعدد الآراء»..
«الاجتهاد الدّيني»..
«قبول المخالف»..
«التفكير المنطقي»..
وبما أن الديمقراطية هي الأكثر حضوراً، فقد حظيت باهتمام الأخ حسين الحوثي وحاول تشويهها والتحذير منها بطُرق مختلفة وتطويل مُمل، خَلُص فيه إلى أن الله قد أمر بطاعة «الأعلام» وحددهم، فلا مجال لكثرة الاجتهادات والتفكير والآراء[1]. ومن ذلك:
كان يحدّث البسطاء بأن الديمقراطية غريْبة على الدين والمجتمع المسلم، وأنها فكرة يونانية أتى بها الإغريق! أما المسلمون فلديهم نظام الاصطفاء من الله الذي له الحق أن يصطفي ويختار ويعيِّن ويحدد من يكون امتداداً لسلطانه في الأرض[2].
اعتبر الديمقراطية والقول بصحة اختيار الناس لحكامهم نوعاً من أنواع العدوان على الله؛ لأن الحُكم ملكٌ لله، والله وحده هو الذي يعيّن أولياءه وليس الناس[3].
زعم أن المسلمين الذين اختاروا الديمقراطية قد قاموا بثورة على الله، حين قالوا: الأمر لنا، والملك لنا، والزعامة لنا، ونحن من نتحكم فيها ونمنحها من نشاء، بينما الله يقول إنه هو من يدبر شئون مخلوقاته ويُعّين لهم الأعلام[4].
اعتبر الديمقراطية مجرد مؤامرة، وأن من جاء بها إنما أراد أن يمسح من أذهان المسلمين فكرة «ولاية الأمر» المرتبطة بنظرية الاصطفاء، لأشخاص معينين[5].
شن هجوماً على الدساتير العربية والإسلامية التي تعتبر الشعب مالك السلطة، معتبراً ذلك خطراً على الأمة، لأنه يبعدها عن الاختيار الإلهي لولاية أمر الناس [6].
التأكيد على أن الديمقراطية جاءت لفرض ولاية اليهود والأمريكان علينا وتمكينهم منّا؛ فهي صنيعتهم، وتقوم على أساس المواطنة المتساوية لكل الناس، وخَلُص إلى أننا لا نستطيع حماية أنفسنا من الصهاينة إلا بولاية الأمر، وحسب فهمه أيضاً [7].
كان يخوف العامة من فكرة الديمقراطية بحُجة أنها تَقبل المخالفين في الدين والسياسة، وبالتالي ستقبل المواطن اليهودي والنصراني بأن يكون شريكاً في الحكم، وهذا برأيه كارثة يجب ألا تتحقق [8].
اتهم دعاة الديمقراطية بأنهم رفضوا الحكم الإلهي في ولاية الأمر، وأنهم يريدون أن تكون السلطة للشعب دون الله، مؤكداً أن الولاية عبادة ولن تُقبل إلا ممن له شرعية من الله أن يحكم في أرضه [9].
استشهد بالوضع العربي المشتت للاستدلال على عدم صلاحية الديمقراطية، ليوصل جمهوره إلى اعتقاد أنه لابد من رأي واحد وقائد واحد وطاعة عمياء ليتمكن العرب والمسلمون من الوقوف في ومواجهة الغَرب [10].
وله كلام كثير حول هذا الموضوع، وما وضعت منه في الهامش كافياً لبيان التوجه والفكرة التي يدندن حولها.. علماً بأنه لم يتفرد بمهاجمة الديمقراطية، فقد شاركه في ذلك غيره من جماعات الدين السياسي، وإن لاعتبارات مختلفة، فما يقال له يقال لغيره.
يحتج الحوثي لما ذهب إليه من التصدي للديمقراطية وتعدد الآراء والاجتهاد وأخواتها بأمرين:
أن الديمقراطية مخالفة لنظرية الاصطفاء وولاية الأمر المحددة من عند الله، وهذه الحجة قد تقدم تفنيدها عند الكلام عن الاصطفاء. وسيأتي المزيد عند الكلام عن «الولاية» و«الثقلين».
أنها تؤدي إلى الاختلاف وتعدد الآراء، وهذا يضعف الأمة، فالأصلح للمجتمع والأسهل لقيادته، تجنبها والاكتفاء بـ: «الاتباع، التمسك، الاقتداء، الطاعة».. الخ!
.. ويمكن أن يكون كلامه هذا صحيحاً؛ ولكن إذ اعتبرنا أنه يتعين على المجتمع أن يتحول إلى قُطعان من الاتباع يُقادون ويساقون حَسَب الطلب، للتأييد والقتال والتظاهر والمقاطعة وترديد الشعارات، أو حتى مهاجمة المخالفين وشتمهم واتهامهم دون سؤال أو مراجعة أو احترام لقاعدة عقلية أو قيمة أخلاقية!!
أما إذا كان المطلوب أن يكون المجتمع واعياً بنفسه ولنفسه، يعبد الله على عِلم ويستبق الخيرات بإرادته، ويتخذ مواقفه بحرية وإرادة كامله، فالأمر مختلف تماماً. فالله نفسه قد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
ولو كانت ثقافة القطعان مطلوبة لله عز وجل لخلق الأتباع بشريحة واحدة مبرمجة على شريحة «السيد العَلَم» وانتهت المشكلة! ولما أمر الله نبيه أن يقول للناس: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}.
ثم إننا إذا نظرنا إلى الدول التي تحكمها الحرية والديمقراطية ويسود فيها التعدد والتنوع، فإننا سنجدها أكثر دول العالم استقراراً ونجاحاً وقوّة، وسنجد الإنسان فيها أسعد إنسان؛ حقوقه محفوظة، ومعتقداته محترمة، وكرامته مُصانة، وكأنه قد أصبح في جنة النعيم التي يُساق شبابنا اليوم إلى الموت طمعاً في بلوغها.
وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: إذا كان الحوثي لا يؤمن بالديمقراطية فكيف يتحدث عنها بعض أتباعه اليوم؟
والإجابة عليه سهلة للغاية، لأنها مذكورة ضمن ملازم الحوثي نفسه، فهو يرى أن الديمقراطية بالنسبة لمن يَصفهم بـ «أولياء الله» مجرد فُرصة أتاحها لهم أعداء الإسلام ويمكنهم استغلالها لكي يتمكنوا من الوصول إلى الحكم والسيطرة التي يتمكنون معها من تنفيذ مشروعهم الخاص وفرضه على الحياة [11].
اليوم أنصار الحوثي مطالبون أكثر من أي وقت مضى بأن يعلنوا تخليهم عن نظرية «الاصطفاء والعَلَمية» كأساس عَملي للحكم وإدارة شأن الحياة، ويقبلوا بالعيش مع اليمنيين والعالم، في ظل أنظمة مدنية تنشد العدل والمواطنة المتساوية، ويعملوا لذلك بشكل واضح، وسيكون الشعب سعيداً بهم كمكون مِنه وفيه. أو يصارحوا أتباعهم بأنهم متمسكون بفكرة «الاصطفاء والعَلَم» وملحقاتهما، ليعرفوا أنهم يناضلون من أجل ذلك المشروع الخاص، ويَقتلون ويُقتلون في سبيله، وأن الوطن والدين والعزّة والكرامة وأمريكا وإسرائيل وسبيل الله، ونحو ذلك مجرد شعارات لدغدغة المشاعر والتلبيس على الشباب.. ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بيّنة.
ولا تَكفي المراوغة بالكلام عن القبول بـ«الجمهورية»، أو بتعيين موظف على رأس سُلطة لا يملك سوى الطاعة والانقياد «للوليّ العَلَم». ولا يجدي التَّعذر بأننا في اليمن لم نعش ديمقراطية حقيقية؛ لأن سوء التطبيق لا يبرر إنكار المبدأ ومحاربته، وإلا للزم محاربة كثير من المفاهيم الدينية التي لم تُطبق بشكل صحيح.