حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

26 سبتمبر.. سابقة تاريخية معيارية ورأسمال وطني

Wednesday 26 September 2018 الساعة 08:54 am

ثورة 26 سبتمبر كانت، بحق، عملية جراحية موفقة لفصل الجغرافيا -التي صارت تعرف بالمنطقة "الزيدية"- عن "الإمامة". لقد كان لهذه الثورة وحدها الفضل في تحرير صنعاء وشمالها من الآفة الإمامية المزمنة، والتي سعت، على مدى زمن طويل، لدمغ هذا المكان الغالي والأصيل من اليمن بدمغتها، ووضع أبناء هذا المكان في حالة دائمة من العداء مع اليمن بأسره. وقد حاولت الإمامة أن تنتج شكلاً من التماهي بينها وبين التجمعات القبلية في المرتفعات والهضاب الشمالية ومحيط صنعاء.

كانت "الجمهورية" في 1962 هي فكرة الخلاص بالنسبة لسكان مناطق الشمال وشمال الشمال أكثر من غيرهم. كانت هي الوصفة التي تأخرت كثيراً قبل أن يعثروا عليها. فمنذ أن وضع الهادي يحيى بن الحسين قواعد سياسية لاهوتية للحكم تحصر الشرعية في "البطنين"، لم يتمكن الفكر السياسي اليمني من تطوير قاعدة بديلة للحكم، ولا ابتكار نظرية متينة تقف بثبات في موجهة لاهوت "البطنين"، واستمر هذا الحال إلى أن تم إعلان الجمهورية في 26 سبتمبر. قبل الجمهورية كانت مناطق الشمال وشمال الشمال مسرحاً لمنافسات وانقسامات الأئمة. لم تكن هناك صيغة ولا طريقة متوفرة وممكنة إلا مقاومة "إمام" ب"إمام".

"لهذا تكاثر الأئمة فقام في أكثر من فترة أكثر من عشرة أئمة: فإمام في صنعاء، وثانٍ في الجراف، وثالث في شهارة، ورابع في المواهب، وخامس في صعدة، وسادس في كوكبان، وسابع في الحيمة، وثامن في ضوران، وتاسع في ذيبين، وعاشر في برط" - البردوني (فنون الأدب الشعبي).

ويستطرد البردوني قائلاً: "وقد استمرت عادة اقتلاع إمام بإمام منذ استقلال اليمن عن الحكم العباسي أوائل القرن التاسع الميلادي حتى عام 1955 حين أرادت بعض قطاعات الجيش أن تضع (السيف عبدالله) مكان أخيه (أحمد) وبعد هذه الحادثة انبثقت فكرة الجمهورية الشعبية".

ويقول البردوني أيضاً في "اليمن الجمهوري": "وكانت فكرة (الشعب مصدر السلطات) من مستحدثات الخمسينات ومن معطيات ثقافتها المسموعة والمقروءة للمعاصرين، فلم يعد هناك من يتجادل عن (القاسميين) و(آل شرف الدين)، ولا من يرى شروط الخلافة بحرفيتها (الهادوية) شروط الزعامة المعاصرة".

وفي أزمنة سابقة مختلفة ظهرت محاولات لدحض قواعد الهادي وبناء نظرية منافسة، لكن هذه المحاولات لم يكتب لها من النجاح ما يجعلها قادرة على التأثير العميق والانتظام في حركة سياسية تستطيع انتزاع السلطة وتأسيس تقاليد حكم راسخة.

يمكن أن نتذكر في هذا الصدد إسهامات الهمداني الذي كان شديد التعصب للقحطانية اليمنية في مقابل عدنانية الهادي وسلالته. ويحضر في هذا الجانب العلامة نشوان الحميري وهو من أكثر المتأثرين بأفكار الهمداني. والحميري رفض بشكل صريح قواعد الهادي للإمامة. وتحدثت مصادر تاريخية عن طموحاته لتأسيس دولة يمنية لا تقوم على نظرية الهادي.

ويذكر علي محمد زيد في كتابه (معتزلة اليمن): "وليس من المستبعد أن يكون نشوان الحميري قد أعجب بإقدام السلطان حاتم بن أحمد (حاكم صنعاء) على إقامة دولة لا تستند بالضرورة إلى شرعية مستمدة من الانتماء إلى قريش وفقاً للنظرية السائدة آنذاك"، "وكانت تجربة حاتم بن أحمد أبرز مثل معاصر لنشوان، ومصدر إلهام".

وأضاف زيد: "لكن نشوان الحميري في طموحه لإقامة دولة يمنية تحت رئاسته، إنما يستند إلى نظريته في الإمامة والتي تجعل تولي الحكم والسلطة حقاً لأفضل الناس وأكرمهم بصرف النظر عن انتسابه إلى قريش من عدمه".

نحن نعرف جيداً أنه تاريخياً كان لدى الإمامة طرقها النمطية وموروثها السياسي المتراكم الذي كانت تجتره بين فترة وأخرى للتمدد في مجال اجتماعي منقسم ومتناحر، ثم ما تلبث أن تنكمش إلى صعدة على مدى الألف العام الماضية. لكن بعد ثورة 26 سبتمر 1962 امتلك اليمنيون (وبينهم كثير من الأسر الهاشمية) لأول مرة طريقتهم وأسلوبهم الخاص في دفع كابوس الحكم السلالي الكهنوتي. لقد أصبح لدى اليمنيين منذ ذلك الحين سابقة تاريخية معيارية، ورأسمال رمزي، وخبرة نضالية عملية، ونموذج متوهج يمكن في أي وقت استلهام روحه ومثله العليا وليس بالضرورة السعي لإعادة تمثيل وقائعه وفصوله بل الابتكار المتواصل والإضافة والإبداع بحسب تغير الزمن والسياق ومقتضى الحال.

■ الأنظمة الجمهورية -بكل اختلالاتها وعيوبها- استطاعت على الأقل تعطيل إمكانية ظهور حركات معارضة قوية للدولة المركزية تنطلق من أساس ديني/ مذهبي، في عموم اليمن الكبير، باستثناء صعدة منذ 2004 وما بعدها. ومع ذلك، كانت اختلالات وأخطاء تلك الأنظمة تعمل على تحفيز نمط آخر من الاعتراضات وردود الفعل التي تستند أحياناً بشكل ضمني إلى إحساس بنعرة مناطقية أو انتماءات جهوية أو عشائرية.

لم تكن الدولة اليمنية المركزية بنظامها الجمهوري بمنجاة من السخط، وظلت ترمى بتهمة هيمنة "الزيدية" المكانية على مراكز الثقل والقوة فيها.

الأنظمة الجمهورية تمكنت فقط من إبطال مفعول التعبئة المذهبية والطائفية ضدها، بما يتمتع به هذا النوع من الخطاب من قوة تأثير فادحة وعنيفة وبالغ الخطورة.

فما الذي سيكون عليه الحال مع حركة كهنوتية طائفية صريحة تحمل في طبيعتها القدرة العريقة على تهييج أشكال متعددة من ردود الفعل، وإنعاش الحساسيات الدينية والمذهبية والمناطقية والجهوية والقبلية والإثنية!

حين نتحدث عن "الجمهورية" هذه الأيام فإن عكسها أو نقيضها أو عدوها، ليس الحوثيين فقط، رغم أنهم أكثر من يتحسسون رؤوسهم كلما سمعوها بحكم أن رايتهم كهنوتية ولفظهم رجعي متخلف في ظل سيطرتهم على عاصمة الدولة ومركزها ولأنهم قرروا أن يكونوا ورثة خط الكهنوت الذي انقطع بقيام الجمهورية في 1962.

الجمهورية في الشمال نشأت كنقيض لنظام الكهنوت الإمامي وفي الجنوب نشأت الجمهورية على أنقاض السلطنات والمشيخات والاستعمار البريطاني.

إن الجمهورية هي صيحة تعبر عن إرادة جامعة ليست موجهة ضد حركة أو فصيل بحد ذاته، بل ضد كل توجه عام أو خطاب أو نشاط يهددها ويتعارض مع روحها ومبادئها وإرثها وهياكلها ورموزها.