فيصل الصوفي

فيصل الصوفي

فصل المقال في أزمة حزب المؤتمر (3)

Thursday 24 January 2019 الساعة 08:55 am

تبسط بعض القيادات البارزة في المؤتمر بصنعاء مشكلة حزبها أو أزمته الراهنة، تماماً كما يفعل الغفل فيه. كلاهما يتشارك الاعتقاد أن هذه الأزمة نتجت عن خلاف استجد حينما فلت الرئيس هادي من الحصار الذي ضربه الحوثيون على داره في العاصمة، وتمكن من الوصول إلى عدن في فبراير 2015، ومن هناك عاد ليتمسك بمنصب رئيس الجمهورية الذي استقال منه، وأعلن عدن عاصمة مؤقته، ومن هناك طالب بتدخل عسكري خارجي، وبعد أسابيع قليلة عصفت عاصفة الحزم، فكان من الطبيعي أن يقف المؤتمر ضدها، وغداة تلك العاصفة انتقل هادي إلى الرياض ليلتحق به صائدو المصالح المؤتمريون، وهؤلاء لم يعد للمؤتمر فيهم نفع، بل لقد تطهر منهم، لكنهم بعد استشهاد رئيس المؤتمر بأيادي الحوثيين، استثمروا المأساة وجذبوا إلى صفوفهم المزيد، ولولا هذين السببين لبقي المؤتمر متماسكا قويا موحد القيادة والموقف. وواضح أن هذه الخفة العقلية تنطوي على قليل من الإطراء.. كأن المؤتمر الشعبي كان قبل ذلك على ما يرام.

على أهمية هذين الحدثين السابقين -بعد تجريدهما من التفسير السابق أيضا- فإن الأزمة الراهنة للمؤتمر تفجرت نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية: تنظيمية وسياسية وغيرهما، تراكمت خلال التجربة التي مر بها حتى الآن وظلت تتفاعل لتتعقد، وقبل النكسة الأخيرة المتمثلة في اغتيال رئيس الحزب، والنكسات التي سبقتها، كانت حالات عدم رضا تسود في أوساط المؤتمرين، ومن وقت إلى آخر، وتفعل فعلها بصمت، وكان الباعث الأصلي لحالات عدم الرضا أو التململ الداخلي القرارات الفردية المتعلقة بالمستويات القيادية العليا، فحسب النظام الأساسي للمؤتمر الذي يعتبر دستورا للحزب يتم اختيار القيادات التنظيمية في المستويات القيادية العليا -بل في مختلف المستويات- عن طريق انتخابات داخلية يكون الاقتراع فيها مباشرا وسريا.

وحدد النظام الأساسي، أيضاً، بعض الشروط والضوابط للترشح، وإن كان قد أهمل شروطا ضرورية مثل أن يتفرغ المرشح للعمل السياسي بعد فوزه. بينما في الواقع كانت القيادات تأتي استجابة لرغبة فرد وبقرار منه وبناء على تقديرات يرى أنها صحيحة أو يجب مراعاتها. لم يكن القرار قرار مؤسسات، ولا الأداء من خلال مؤسسات حزب، الأصل أن الحكم فيه لنظام أساسي ولوائح وأدبيات ووثائق، وليس للاجتهادات الشخصية، ومثال لذلك -يحضرني الآن- أن رئيس الحزب قال لمندوبي المؤتمر العام السابع إني قد اخترت نائب رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي نائبا أول لرئيس المؤتمر، ومستشاري السياسي الدكتور عبد الكريم الإرياني نائبا ثانيا، ورأيت أن الأمين العام للمؤتمر يجب أن يكون هو رئيس الوزراء الاستاذ عبد القادر باجمال، والمطلوب تزكية ذلك عن طريق رفع اليد علامة الموافقة.. فضجت القاعة بأصوات المندوبين (شارك في هذا المؤتمر 5.265 عضوا أو مندوبا)، وقام بعض منهم يقول يا فخامة الرئيس، ولماذا لا يفتح باب الترشح، ومن يرغب بترشيح نفسه نائبا أول أو نائبا ثانيا أو أمينا عاما يتفضل، وتتم عملية تصويت بالاقتراع السري، والذي يحصل على أكثرية أصوات مندوبي المؤتمر العام السابع هو الفائز. فقال لا، أنا مؤسس المؤتمر، هذا حزبي، وأنا قررت اختيار هذه القيادات لمصلحة وطنية، والمصالح الوطنية يجب مراعاتها... ومثل هذه الحالة كثير استمرت بعدها، سوف تمر بنا بعد قليل، كما كانت حالات مماثلة قائمة قبل الحالة التي استشهدنا بها.

وحري بنا الإشارة هنا أن قيادات عليا في المؤتمر كانت تدرك هذه المشكلة جيدا، وهذا أمر كان كاتب هذه السطور يستبعده، فقبل عشر سنوات، تقريباً، كنا ما نزال نهون من الثقافة السياسية والتنظيمية لقيادات تقليدية أو مخضرمة، إلا أن هذه النظرة تغيرت بعد أن أتاحت لنا الفرص الاستماع إلى بعض منها مرارا عدة، فإذا بنا أمام قيادات على قدر كبير من الاستنارة الفكرية والثقافة السياسية.. أمام رجل مثل الشيخ يحيى الراعي يقول ما مؤداه إن أي منصب تنظيمي قيادي في المؤتمر يجب أن يكون موضوع تنافس بين عدة مرشحين مؤهلين للدور القيادي الذي ينتظرهم، ويجب أن يكون مفهوما أن صورة القيادي مهمة في العملية التنظيمية او الحزبية، وثقافته التنظيمية والسياسية من ضرورات نجاحه في القيادة. وعلينا القبول بصلاحياته التنظيمية، وندعه يمارس سلطته التنظيمية بحرية ويتخذ القرار بناء على نصوص النظام الداخلي، وبما يكتسبه من مهارة إدارية، وثقافة سياسية، وليس بوصاية أو قرار من أعلى. وكنا في أحد أيام العام 2015 في حضرة رئيس المؤتمر، ولما كلف الراعي بمهمة حزبية جديدة، قال له: يا سيدي الرئيس كودي اقوم بعملي وأنا رئيس مجلس نواب، وأنا أمين عام مساعد للمؤتمر، وأنا..


قد شغلتني بكثرة الوظائف، وشغلت قلة معينة بينما المؤتمر مزدحم بقيادات ممتازة، وهي دون عمل، فامنحها فرصة، وزع المهام، خل الناس يشتغلوا! بل وجدنا أنفسنا أمام قيادات تقليدية لكن مستنيرة تطالب بتمكين النساء والشباب ليقوموا بدورهم في المؤتمر. مع ذلك كان يتم التغاضي عن مطالبهم.

نقول: إضافة إلى ما هو ذاتي أو تنظيمي، كانت أبرز العوامل الموضوعية تلك النكسات أو الهزات السياسية التي تعرض لها المؤتمر، خلال العقد الأول من هذا القرن، ثم تطورت خلال السنوات 2006 - 2010 إلى أزمة سياسية عامة بينه وبين أحزاب اللقاء المشترك- المعارضة، نتيجة عدم اتفاق الطرفين على ما هية وكيفية وضمانات الإصلاحات الدستورية والقانونية، التي كانت موضوع جولات الحوار المتقطع في الفترة المذكورة، إضافة إلى حالة الاضطراب الاجتماعي التي سادت بعض المحافظات الجنوبية والشرقية نتيجة تصاعد مطالب فصائل الحراك الجنوبي منذ 2007.. ومع أن حزب المؤتمر ظل يحافظ على تماسكه أمام تلك الهزات السياسية، إلا أن وضعه تغير بعد ذلك حيث مني بنكسة تنظيمية وسياسية كبيرة جراء تفاعل الأحداث المحلية المتتابعة التي تلت، وخاصة تلك التي كانت امتدادا لأحداث خارجية مثل ثورة 11 فبراير2011، ضمن الموجة التي أطلق عليها الامريكيون ثورة الربيع العربي.

بعد نحو شهر من الربيع العربي، وما عرف بالثورة الشبابية- الشعبية السلمية، كان الإخوان المسلمون في اليمن (التجمع اليمني للإصلاح)، الذين يديرون المظاهرات والاعتصامات في الساحات العامة ويقودون الشباب ويمولون أنشطتهم وموطنهم الجديد بموارد محلية وهبات قطرية، قد بدأوا يشعرون بالإحباط جراء ضعف فعاليتها أو تأثيرها في النظام وحزبه الحاكم، فشرعوا في توجيه الثورة السلمية نحو العنف، بهدف دفع ثورة التغيير السلمي إلى نقطة اللاعودة، وخلخلة تركيبة النظام القائم، مقدمة لإسقاطه، فدبرت واقعة 18 مارس التي تمثلت في قتل أكثر من أربعين شخصا بعد الفراغ من صلاة يوم الجمعة التي أطلقوا عليها جمعة الكرامة، وعلى الفور وجهوا التهمة نحو النظام العائلي ممثلا في الأمن العائلي والحرس العائلي.. وبهذه الذريعة أعلن اللواء علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع انشقاقه العسكري، وأنزل ضباط وجنود الفرقة إلى الساحة في العاصمة بدعوى حماية المعتصمين، وأعلن قادة ألوية عسكرية موالون له انشقاقهم أيضا مثل محمد علي محسن في حضرموت والقشيبي في عمران، والمقدشي في البيضاء، وغيرهم آخرون كثر في تعز والحديدة، فانقسمت المؤسسة العسكرية، وارتفعت حدة العنف، ووجدت الجماعات الإرهابية فرصتها في هذا المناخ فوسعت دائرة العنف إلى أماكن جديدة ومحافظات جديدة مثل أبين.. ومعروفة مكانة اللواء علي محسن داخل النظام وتأثيره فيه وفي محيطه بصفة عامة، فتحت لافتة الاحتجاج على تلك المجزرة قدم نحو مائتين وخمسين عضوا في اللجنة الدائمة وعدد من أعضاء اللجنة العامة استقالاتهم من الحزب، كما استقال منه سفراء في الخارج وموظفون كبار في هيئات حكومية، وأعضاء في مجالس النواب والشورى والمحليات، احتجاجا على تلك المذبحة، وقرر بعضهم الانتقال إلى مخيمات الاعتصام، والانخراط في الثورة الشبابية- الشعبية ضد النظام الذي كانوا قبل خمس دقائق جزءا منه. وقد تراجع عن الاستقالة عدد قليل منهم، زعموا أنهم أدركوا في وقت لاحق أن تبريرهم استقالاتهم لم تكن وجيهة، حيث ظهرت وقائع جديدة واعترافات كشفت لهم أنهم استقالوا احتجاجا على مذبحة بشرية لم يكن للنظام العائلي والحرس العائلي والأمن العائلي دور حقيقي فيها. تماما كما لم يكن لنظام مبارك دور في معركة الجمل المشهورة بميدان التحرير في القاهرة، إذ استطاع شباب مستقلون ومن أحزاب أخرى غير التجمع اليمني للإصلاح القبض على عدد من المسلحين الذين كانوا يطلقون النار على الشباب من فوق عمارات ومن أزقة ضيقة، واحتجزوا بعض أولئك المسلحين- القتلة، في خيمة اللجنة الأمنية لساحة التغيير، لكن حزب الإصلاح نقلهم إلى مقر الفرقة الأولى مدرع القريبة من مكان الاعتصام بدعوى التحقيق معهم، إلا أنهم اختفوا نهائيا، وفي وقت لاحق نسفت عمارة في حي النهضة، ودفن من فيها تحت أنقاضها، وزعم قيادي في حزب الإصلاح يلقب بالحري- أنشق عن هذا الحزب بعد واقعة 18 مارس- أن العمارة نسفت عنوة للتخلص من أولئك القتلة الذين نقلوا إليها من الفرقة الأولى مدرع، وقال إن ابنه كان أحد الذين قتلوا هناك، وسجل مثل هذه الشهادة، وشهادات أخرى مماثلة، شباب ونشطاء كانوا ضمن المشاركين في الاعتصام، بعد أن تركوا ساحة التغيير احتجاجا على العنف الذي كان يقوم بها ضباط وجنود الفرقة الأولى مدرع ورجال قبليين يتبعون عائلة الشيخ الأحمر، ونشطاء حزب الإصلاح ولجانه الأمنية التي كانت تدير الساحة وتوجه حركة المعتصمين فيها.


بعد تلك الخسارة، مني حزب المؤتمر بنكسة أخرى، فالمستقيلون من الكتلة النيابية للمؤتمر، ومن اللجنتين الدائمة العامة لم يكتفوا بالاستقالة بل تحول معظمهم إلى معارضين للمؤتمر، وانحازوا إلى تكتل أحزاب اللقاء المشترك، حتى إن أعضاء مجلس النواب المستقلين من المؤتمر الذين شكلوا كتلة نيابية خاصة بهم، كما قالوا في البداية، أصبحت كتلتهم ضميمة للكتلة النيابية لأحزاب اللقاء المشترك- المعارضة حسب ما أكده بعد فترة النائب وعضو اللجنة العامة المستقيل محمد عبد اللاه القاضي، وذلك خلال حوار أجرته معه صحيفة الجمهورية الحكومية يوم 27 مارس 2013. ونفس الموقف كان بالنسبة لآخرين استقالوا إما من اللجنة الدائمة أو اللجنة العامة مثل الدكتور محمد أبو لحوم، وعبد العزيز جباري، وحسين الأحمر وعبده بشر وغيرهم.

شكل النواب المستقيلون من المؤتمر وبجانبهم نواب مستقلون، كتلة الأحرار في مجلس النواب، فكانت موجهة ضد المؤتمر. وشكل آخرون تكتلا سياسيا معارضا باسم مجلس التضامن، وبعد وقت قصير اختلفوا ثم خرج منه الشيخ حسين الأحمر ليؤسس حزبا جديدا سمي حزب التضامن الوطني، واستقطب عددا من أعضاء الكتلة النيابية للمؤتمر في مجلس النواب، وأسس العضو المستقيل من اللجنة العامة محمد أبو لحوم، والنائب البرلماني عبد العزيز جباري حزبا جديدا، وهذا بدوره استقطب عددا آخر من ممثلي المؤتمر في مجلس النواب، واحتفظ النائب عبده بشر بما تبقى من كتلة الأحرار في مجلس النواب، وهم كما قلنا مستقلون ومؤتمريون، وقد أدت تلك الاستقالات والاستقطاب إلى تراجع حجم كتلة المؤتمر في مجلس النواب إلى أقل من 150 عضوا، بعد أن كانت كتلته مكونة من نحو 226 نائبا من أجمالي 301 نائب.

ونعيد التذكير بأن هذه النكسات ليست وليدة لحظتها بل نتيجة تراكم مجموعة من العوامل والمثيرات، بما في ذلك ما هو شخصي.. وحول هذه الأخيرة يمكن الإشارة إلى مثالين بسيطين، فالشيخ حسين الأحمر ظل عضوا في أعلى هيئة سياسية قيادية بحزب المؤتمر، هي اللجنة العامة، لأسباب تتعلق بالعلاقات الشخصية داخل التركيبة السياسية التي كان الرئيس علي عبد الله صالح يظن أنها من مقتضيات التوازن السياسي والقبيلي، ولأسباب مشابهة فقد الأحمر موقعه التنظيمي عام 2005، بعد تخلي الرئيس صالح عن دعمه، ومنذ ذلك الحين اتخذ موقفا معاديا بدوافع شخصية، إذ كان يدرك أن عدم حصوله على العدد الكافي من أصوات مندوبي المؤتمر العام السابع للحزب الذي عقد بمدينة عدن عام 2005، ليس مبررا لحرمانه من عضوية ظل يحوزها من قبل دون أي عملية اقتراعية. مع ذلك وجد حسين الأحمر أن المصلحة الشخصية والعائلية تستدعي بقاءه في الكتلة النيابية للمؤتمر، وظل عضوا فيها إلى أن شكل مع زملائه مجلس التضامن، ثم حزب التضامن الوطني. كذلك الأمر لدى عبد العزيز جباري، فموقفه الحزبي لم يكن مقطوع الصلة بخلاف بينه وبين مواطنه الشيخ يحيى الراعي الأمين العام المساعد للحزب ورئيس مجلس النواب، حيث وقف هذا الأخير ضد طموح جباري للحصول على مقعد محافظة ذمار في اللجنة العامة لحزب المؤتمر الشعبي.

تلك بعض مظاهر الهزات أو النكسات السياسية التي مني بها المؤتمر الشعبي، والتي صارت تكاليفها جزءاً من الثمن الذي يدفعه الآن.. والخزانة زاخرة بحالات أخرى.. وسنرى في المقال التالي مبدأ ونتيجة الخلاف الذي دار بين الفريقين: الأول منهما الرئيس السابق للجمهورية ورئيس الحزب، والثاني النائب الأول لرئيس الحزب وأمينه العام أيضاً الذي صار رئيساً للجمهورية.

(*) عضو اللجنة الدائمة الرئيسية