فهمي الكاشف

فهمي الكاشف

عن غلبة الواقع على الفِكر في اليمن

Sunday 02 June 2019 الساعة 01:07 pm

الملفت للنظر أن إسهامات الحضارة اليمنية في حقل السياسة والاجتماع لم تحصد من الصيت والانتشار والاعتراف مقدار ما حصدته إسهامات لحضارات العالم أقل عراقة. 
لماذا؟
هل لأن نصيب ميراث الحضارة اليمنية من التوثيق والحفظ ضئيل للغاية، إن لم يكن معدوماً؟ هذا صحيح. فهي ليست منقوشة في ألواح صلبة خالدة، ولا هي مدونة في كتب ومخطوطات تضم في طياتها تأويلات نظرية مفصلة للأحوال والأعمال والأيام، وتسجيلات أدبية ملحمية للتجارب السياسية والوقائع الحربية والأشكال الاجتماعية والاقتصادية.

إلا أن غياب التوثيق والتسجيل حجة على الحضارة اليمنية وليس حجة لصالحها. وهي علامة نقص أكثر من أن يكون علامة كمال.

حتى فكرة "الشورى" الغامضة، والتي يفاخر بها الوطنيون اليمنيون ويتأولونها بهدف تقريبها مع مفاهيم عصرنا عن الديمقراطية، هذه الفكرة انتظرت إلى أن أشار إليها القرآن الكريم في قصة ملكة سبأ مع سليمان. لا وجود لفكرة الشورى في أثر تاريخي مدون سابق للإسلام، ولم تقترن الفكرة بأعمال مفكر أو حكيم يمني جعل منها موضوعا لفلسفته وتأملاته وشروحه.

الدول والممالك اليمنية القديمة كانت تظهر وتتلاشى على غير نظرية أو فلسفة حكم. الترتيبات والهياكل الخاصة بكل مملكة لا تتحول إلى فلسفة مكتوبة في الحكم. التجارب لم تدرس ولم يستنبط منها فكر وثقافة سياسية ومنظومات معرفية.

سيقال، ولن نعترض، أن الحكمة اليمنية شفاهية محكومة بالتغير وفقًا لمقتضى الحال. وأنها تنتقل في الزمن بقوة العادة وأنها محفوظة بواسطة أمثال ومقولات مأثورة وأعراف. وهو ما يعني "بأن التجربة يمكن تغليفها في حُزَم صغيرة جذّابة وأنيقة".

بالنسبة لعالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين، فالمجتمع البشري، الذي يمكن نعته بأنه تاريخي، أي مجتمع يتوفر على "إمكانية التطور، أو على خاصية التاريخانية، يتكون من عنصرين: الممارسات من جهة، ومجموعة من التأويلات من جهة أخرى".

ذلك أن الصورة التي يكونها مجتمع ما حول قدرته الخاصة على الإبداع هي التي تحدد تأويلاته، كما يضيف تورين. ويوضح بالقول: "إذا كانت ممارسات هذا المجتمع ضعيفة، فإنه سيبحث لها عن تفسيرات متعالية: لدى الآلهة أو القدر… أما إذا كنا قادرين على تغيير وخلق مجتمعنا، فإننا سنبحث في ذاتنا عن تفسير لهذا المجتمع، وسنجد هذا التفسير في ذاتنا فعلا. فنحن من يحدد مجتمعنا، لا قوة أخرى غيبية أو خارجية بعيدة".

من هذا المنطلق، أزعم أن المجتمع اليمني يفتقر للخاصية الحضارية -أو فلنسمها ما نشاء- التي من دونها لا يكون للنظرية، أو للفكر، نفس الأهمية الممنوحة للتجربة المحتومة، في معظم الأحيان، بضغط من الضرورات وإكراهات الطبيعة التي لا ترحم. 
هل ينفرد مجتمع اليمن بالافتقار لهذه الخاصية التي تنفلت عن كل تسمية؟ 
من الحكمة أن لا نقطع برأي.
الأكيد أننا لا نشعر هنا بذلك الهوس، الذي نعرفه عند مجتمعات من مستويات أكثر تحضرا، للتنقيب في تاريخ المفاهيم وأصول الأفكار ومنشأ العادات والسنن، وبالتالي معايرة وضبط الأفعال بالاستناد إليها. لا نشعر أننا مأخوذون بتفكيك الألفاظ والأسماء التي نطلقها على الأشياء والأوضاع والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية وأساليب الحكم والتنظيم السياسي.

من هذه الناحية، الإمامة مثل الجمهورية مثل الديمقراطية مثل الاشتراكية مثل الدولة...إلخ، جميعها مصطلحات تشترك في كونها مجوفة وعاطلة عن المعنى، أي أنها لا تؤخذ في اليمن بمعناها العميق، المعنى الأصلي المحدد في النظرية. فالإمامة، كنظرية، لا يبدو أنها فهمت في اليمن على النحو الذي تُفهَم به نسخة أخرى من الإمامة كالتي في المغرب العربي على سبيل المثال.

على الدوام، إما أن تكون النظرية طموحة ومثالية بحيث يتعذر ضبط الممارسات والوقائع ومطابقتها عليها، وهذا من شأنه إظهار المعني بإنفاذها في صورة المقصر والمتهاون والعاجز بالقياس إلى النظرية، أو أن تكون النظرية هي القاصرة والمختلة والهزيلة بالقياس إلى ما يحتاجه الواقع وما يمكن إمضاءه عليه.