فهمي الكاشف

فهمي الكاشف

التجزؤ يتغذى من: ماضي اليمن وحاضر العالم

Wednesday 07 August 2019 الساعة 08:43 am

▪هل الأمَّة أو القومية معطى سابق على الدولة أم أن الدولة هي المعطى الذي بموحبه تنشأ الأمَّة وتُستخرَج من فوضى العناصر؟

يعقد عالم الاجتماعي الفرنسي بورديو مقارنة تبسيطية بين نمطين تاريخيين من علاقات الدولة/ الأمة:

في الحالة الفرنسية الدولة هي التي تصنع الأمة، فهي الجهة المنوط بها جعل الشعب يتكلم لغة موحدة مثلاً.

في الحالة الألمانية، الأمة تعرب عن نفسها بالدولة، فكل ناطق بالألمانية هم مواطنو ألمانيا: كل من لهم الخصائص العرقية اللغوية الثقافية ذاتها هم مواطنو ألمانيا.

لذلك كان الألمان يطلقون على توحيد الألمانيتين، الشرقية والغربية، عام 1990 هذا الوصف: "إعادة توحيد".

يستطرد بورديو: "الوحدة السياسية في النمط الفرنسي وحدة قانونية إقليمية، إنه إقليم تكون إقليمياً بمادة قانونية أو حقوقية، إنه الصلاحية التي أقر عليها دستور ما، والمواطن هو من ينتمي إلى هذه الصلاحية، لكنه يستطيع أن يتكلم لغات جهوية، وأن تكون له سنن وتقاليد ثقافية مختلفة وأعراف مختلفة، إلا أنه يعود إلى الدولة أن توجد وأن تخلق الوحدة السياسية بعمل تلقيني".

عندما كان بورديو يلقي دروسه عن الدولة في الكوليج دو فرانس، كانت حقبة الحرب الباردة بين الشرق والغرب في لحظاتها الأخيرة. كان الاتحاد السوفييتي يتفكك وينحل. وكانت يوغسلافيا الاشتراكية تنحل أيضاً عبر ما عرفت بحروب البلقان التي أسفرت عن تشكل عدد من الدول على الامتداد الجغرافي الذي كان يغطيه الاتحاد اليوغسلافي.

وقد علق بورديو في إحدى محاضراته بالقول: "لدينا دول تنحل تحت أبصارنا. قوام عملي هو تبيان كيف تتكون دولة، لكن كان بالإمكان القيام بالعمل ذاته وبالجودة ذاتها انطلاقاً من انحلال الدولة. نشوء دولة وانحطاطها، لهما الفضائل ذاتها لجهة وقف التسخيف: انحلال دولة يتيح لنا أن نرى ما هو مضمر ومتضمن في وظيفة دولة ويأتي بداهة وتحصيل حاصل، مثل الحدود ومثل كل ما هو وحدوي".

انحلال دولة، بحسب بورديو، "يتيح لنا أن نرى أن بناء الوحدة القومية، إنما يجري ويتم ضد النزعات الانفصالية التي يمكن أن تكون جهوية..."، (بورديو، "عن الدولة"، ص 605).

فحروب الانفصال، كما يقول، "هي حروب علم اجتماعية، وهي أنواع وضروب من الاختبارات العلم اجتماعية التي تبعث في الوعي وفي الخطاب كل ما سكت عنه النظام العادي وافترضه مقبولاً ومسَلَّماً به".

▪اليمن دولة في وضع الانحلال. والدولة التي نتحدث عن تحللها هي الدولة التي نتجت عن واقعة اندماج الشمال والجنوب في كيان مستقل عام 1990، والتوحيد الذي نتحدث عنه هو توحيد المجال السياسي والاجتماعي لليمن منذ ذلك الحين. لن نحذو حذو الأنشودة المألوفة التي ظل يرددها بعض الوطنيين عن أن الشعب اليمني موحد منذ الأزل، وأنه سيبقى كذلك، سواءً في دولة واحدة أو سبعمائة دولة، وكأنهم بهذا يقررون حقيقة علمية لا يعرف عنها أحد أي شيء.

هذا الوهم الغنائي الرقيق يمكن أن يقال عن ماضي كل شعوب وأمم العالم. ما علاقة هذا بالوحدة السياسية التي تنتظم بها الأمم وتتبين فيها شخصيتها ضمن إطار جامع اسمه الدولة ذات السيادة الواحدة؟ هناك دول/ أمم مستقرة في عالم اليوم مع أن تاريخها لا يخبرنا أنها كانت موحدة منذ الأزل، بينما نحن (الموحدون منذ الأزل) نعيش اليوم بلا دولة ولا نظام ولا سيادة واحدة.

وليس لنا، بالطبع، أن نكتفي بالتنقيب في سجلات ماضي اليمن عن التفسير الشافي، الكلي، لحالة التجزؤ التي انحدرت إليها بلادنا في السنوات الأخيرة، فكل دول العالم، تقريباً، لها ماضٍ مجزأ، بل لقد صادف أن الأوضاع التي يمر بها اليمن تجد تفسيرها أيضاً في تفاعل الماضي المجزأ للبلاد مع حاضر العالم المجزأ، حيث الانقسام والتعدد واللا يقين والتحلل هي السمات الرئيسية للسياسة في المجال الدولي والعالمي.

بعبارة أخرى: التجزؤ في حاضر اليمن يتغذى من مصدرين: ماضي اليمن وحاضر العالم.