يعتبر الجاحظ والإمام أبو حامد الغزالي وديكارت من الفلاسفة الكبار الذين عنوا بالشك المنهجي من أجل الوصول إلى الحقيقة.
وتتجلى ملامح عبقرية الجاحظ في قوله عن الشك المنهجي: «واعرف مواضع الشَّك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة لـه، وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التَّوقُّف ثُمَّ التَّثبُّت، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه.
ثمَّ اعلم أنَّ الشَّكَّ في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجمعوا على أنَّ اليقين طبقات في القوَّة والضَّعف».
وغني عن البيان القول بأن الجاحظ في هذا النص لم يرد الشَّكَّ لمحض الشَّك، ولا يقبل أن يكون الشَّكُّ كيفما اتَّفق ولا في كلِّ أمرٍ على حدٍّ سواءٍ ولا بالطريقة ذاتها؛ بل إن الشَّك الجاحظيَّ، بهذا المعنى، لا يختلف البتة عن الشَّك المنهجيِّ عند الإمام الغزالي والفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت، فكلُّ منهم أراد الشَّكَّ طلباً للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة، التي لا تقبل تفاوتاً في الدَّرجات.
وقد أضاف الغزالي بعد أن قال إن ما يكتبه يُحَمَلُ على ثلاثةِ أوجه: وجهٌ يُدافع به عن عقائدَ العوام كما في كتابه إحياء علوم الدين، وقول يقوله على قدر السائل والمسترشد وفقا لما جاء في كتبه المضنون بها على غير أهلها، مثل كتابه "ميزان العمل" و"المنقذ من الضلال" و"معارج القدس".
وأما الحقيقة كما يقول فيحتفظ بها لنفسه ولا يبوح بها إلا لمن يشاركه فيها الاعتقاد.
ثم يقول: إذا لم يشكك هذا في اعتقادك الموروث فكفى بذلك نفعا فإن من لا يشك لا ينظر ومن لا ينظر يبقى في العماية والضلال.
ثم يستشهد بقول المتنبي:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به * في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل!
وأما ديكارت فقد تمحورت فلسفته حول الشك المنهجي فقدم تنظيرا دقيقا، فاستحق أن يطلق عليه أعظم فلاسفة الشك.
فقد توصل من خلال طريقته في المنهج وهي نظريته في الشك قال إنها أوحيت له في إحدى الليالي بعد طول تأمل في الفلسفة المدرسية والخلافات القائمة بين مدرستي أرسطو وأستاذه أفلاطون.. فدون ذلك المنهج الذي كانت بمثابة ميزان لقياس صحة الأفكار والتوصل إلى الصواب من عدمه، وبه أصبح أبا الفلسفة المعاصرة والتي أثبت من خلال "المقال في المنهج " تصحيح نظريات في علوم كثيرة كالبصريات والهندسة والرياضيات.
وقال: إن منهجه صالح للوصول إلى حقائق والعلوم التي صورها بشجرة جذورها الميتافيزيقا، أي العلوم الغيبية ولها ثلاثة فروع؛ علم الطب وعلم الأخلاق وعلم الميكانيكا وكل العلوم تندرج وتتفرع من هذه العلوم الثلاثة، وأن ما يفتقر إليه هي وسائل وأدوات العلوم التي تختصر له الوقت، واعتبر الوسيلة أهم من اكتشاف أي نظرية.
كما عمل على تصويب نظريات فثاغورس، وتوصل إلى علوم البصريات والتشريح.
فشكه شك منهجي أي بغية الوصول إلى اليقين، وهذا النوع من الشك يمكن أن نطلق عليه بالشك الإبراهيمي، وهو عينه شك فلاسفة الإغريق القدماء السبعة.
وما أحوجنا اليوم لمثل هكذا شك ونحن نتعامل مع قلقلات وعنعنات ما أنزل الله بها من سلطان فيها الغث والسمين، طالما ولدينا معيار الكتاب المبين، لنصوب كل المرويات التي مزقت الأمة الإسلامية إلى فرق وشيع تكفر بعضها بعضا...!!
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك