حسن الدولة
انفصال الديني عن السياسي في التراث الإسلامي
بالرغم من أن الروايات ذات الصلة بالحكم، لها طابع قدري وجبري -وهي أساسا لا أصل لها- وغيرها من الأحاديث السياسية التي تأمر بطاعة الحاكم الظالم.
ويلاحظ أن سردية ومضامين هذه الأحاديث عن التاريخ والحكم، مؤداها في الأخير إنما هو إقرار ضمناً -لا تصريحاً- بانفصال الديني عن السياسي، وتناقض الملك (الدولة السياسية) مع الخلافة (الدولة الدينية)، فإنهم قد أوردوا نصوصا تؤكد فترة الخلافة وتراجعها لصالح دولة الملك العضوض، بحديث خير القرون هكذا: (خير القرون قرني هذا ثم الذي (النص) يليه ثم الذي يليه ثم تبزغ بمشيئة -هكذا جعلوها قضاء وقدرا- دولة الملك، أو الدولة السياسية. هكذا جعلوها، الحكم العضوض أمرا مقدرا بمشيئة الله!!).
وبقاء الأمة بلا دستور أو نظام سياسي يوضح كيفية اعتلاء الحاكم سدة الحكم كل ذلك قضاء وقدر؛ يضاف إلى ذلك حقيقة أخرى، وهي غياب مفهوم الدولة بدلالته الدستورية والسياسية كإطار للحكم في القرآن الكريم تماماً.
وكل ما ورد في القرآن الكريم ليس سوى حض على قيم ذات صلة بالحكم، مثل العدل والمساواة، والقسطاس، والشورى، وغيرها من المفاهيم.
لكن الحض عليها في هذا السياق ليس باعتبارها آليات أو شروطاً سياسية أو قانونية ملزمة لنوع معين من الحكم، وإنما باعتبارها قيماً إنسانية عليا يستحسن التمسك بها، وأن من يفعل ذلك سيثاب عليه.
ما لم فقد أوجب فقهاء السلاطين طاعة الحاكم وتحريم الخروج عليه أو الثورة!
وسياق الأحاديث التي تؤسس لنظرية الجبر عند أهل السنة هي في هذا المعنى الذي يتسق مع الأحاديث السياسية الموضوعة، التي تقر بحتمية التحول من الدولة الدينية إلى الدولة السياسية، وتحض الناس على الطاعة إلا في حال واحدة، وهي معصية الله، لأنه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
وهي إضافة غير معمول بها فحكام الجور قد عصوا الله وقتلوا وسفحوا ولم تحرك الرعية ساكنا..
أي أن انحراف الحكم في أمور الدنيا لا يجيز العصيان.
أما الانحراف في أمور الدين فلا تجوز معه الطاعة.
ولكن هذا نظريا أما من الناحية العملية فالأمر طاعة عمياء في المنشط والمكره.
وفي هذا ما يمكن اعتباره تمييزاً واضحاً، أو فصلاً لمتطلبات الديني وضروراته عن متطلبات وضرورات السياسي الدنيوي.
غياب نظرية في الحكم هو الذي تسبب في تحول نظام الخلافة إلى ملك عضوض، وليس الأمر قدرا محتما ومشيئة سبقت، بل لغياب مفهوم الدولة في القرآن (وهو النص المؤسس والمصدر الأول للتشريع) تتضافر معه دلالات الأحاديث السياسية، للتأكيد أن الطبيعة السياسية أو الدنيوية متروكة للناس لأنهم أدرى بشؤون دنياهم (عكس الدينية) المسألة التي يستوجب وجود نص.
في الوقت نفسه، نجد أن التجربة السياسية العملية في التاريخ الإسلامي، منذ السقيفة حتى الآن، تتضافر بدورها مع الأحاديث النبوية، في تأكيد أن مسألة الدولة والحكم في الإسلام هي في أصلها مسألة سياسية دنيوية، وليست مسألة دينية، وبالتالي خضعت في نشأتها وتحولاتها لنواميس الدنيا، والمجتمع الإنساني قبل خضوعها لأي شيء آخر.
نقول ذلك رغم وجود أحاديث أثبت التاريخ صحة متنها مثل: حديث "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة أول نقضها الحكم"، ما يؤكد أن السياسة هي مفسدة للدين، وأن السياسة وساس ويسوس ما دخلت في شيء إلا أفسدته، حسب تعبير الأستاذ الإمام محمد عبده -طيب الله ثراه في الجنة.
السؤال هنا: ألا تنطوي هذه الملاحظات أولاً على أن النصوص الإسلامية التأسيسية تقر في نهاية المطاف بانفصال الديني عن السياسي؟
وثانياً أن هذا الانفصال، تبعاً لذلك، كان ولا يزال سمة بارزة من سمات التاريخ السياسي الإسلامي؟
طبعاً لا بد من استثناء مرحلة الخلافة الراشدة عن هذا التعميم. وهي مرحلة فرضتها الظروف السياسية من "بيعة فلتة وقى الله الناس شرها"، حسب وصف عمر لخلافة أبي بكر -رضي الله عنهما- إلى وصية من السابق للاحق، كما في تولي عمر، إلى ناخب واحد هو عبدالرحمن بن عوف وستة مرشحين، كما في خلافة عثمان، إلى تزكية أغلب المهاجرين والأنصار، كما في خلافة الإمام علي.
وهذه الفترة لا يتجاوز عمرها الـ30 سنة في التاريخ الإسلامي وما بعدها فملك عضوض، وبالتالي لا يمكن أن تكون مرجعاً أو أساساً للحكم على طبيعة ومسار هذا التاريخ.
والخلاصة.. أنه إذا كان مكمن قوة الإسلام في تركه تشريع تنظيم حياة الناس حسب ظروف كل منطقة قال سبحانه: {لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا} فقال: "منكم" ولم يقل "لكم" إلا أن مكمن ضعف المسلمين هو عجزهم عن اجتراح نظام حكم يوضح شروط الترشيح للحكم وكيفية اعتلاء الحاكم وفترة حكمه ومتى يجب عزله.
أي لا يوجد نظرية للحكم ولا سياسة ولا دستور، في حين نجد مئات الكتب عن إمامة الصلاة، وما قاله صاحب كتاب الأحكام السلطانية هو تبرير أكثر منه تقرير أو تنظير.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك