أحمد نويهي

أحمد نويهي

تابعنى على

ساحة السماء

Wednesday 05 April 2023 الساعة 11:21 pm

من وسط الركام تنبعث المخا كما لو تبث على الهواء نسمات البحر حين الحضور يعصفون بدورة الغياب.

من ساحة وسط المدينة القديمة تشعشع المخا تنبعث كطائر العنقاء. 

ثمة قلوب تحتشد كما لو تعاهدوا وتحالفوا على فتح مسار يشق طريقاً وسط الضباب والغبار.

يكتبون بحرف الضاد مسيرتهم ويقررون المصير بلا إملاءات من أحد.

لهم التحيات تتالى والإكبار والإجلال والتقدير وهم الصامدون المرابطون هنا حيث سافرت المراكب وأقلعت الأشرعة.

إنهم الصغار تلك القلوب والنفوس التي رضعت بكتاب الحياة نشيد الخلود:

رددي أيتها الدنيا نشيدي ردديه وأعيدي وأعيدي..

يبدأ الربيع دورته الآن ليستمر كل وقت وحين.

العارفون بالله هنا سكنوا وسكنت أرواحهم حين ارتشفوا الغيم والتحفوا التراب زرعوا في البساتين ماء المحبة لتصبح المدينة أشبه بالمدن الفينيقية والاغريقية حين صارت مدينة "كوزمبلوتية" تعددت لغاتها وجيناتها وثقافتها ومساربها والمدارب.

من هنا سافرت القوافل حين حملت التوابل واللبان والبن والبخور، هنا تضوعت روائح العطر والقرنفل والصندل والكاذي والمكسرات.

هنا صنعت منذ أقدم العصور التحف والنجف وأشرعة الصواري ومراكب الصيد لتجوب بحار الدنى ترفع لله صلاة الكفاح في كل موج هادر على سواحل مالها شطآن.

غاب الرجال يقاتلون العوز والأعاصير وكتائب الغزاة الطامعين، منهم من قضى ومنهم ما زال ينتظر دورة الحرب تضع أوزارها عل نعثر على رائحة ملابسه وقيافته في إثر المحاريب سجوداً أو قياماً.

ما زال ينتظرنا الكثير حتى نشرق كيفماء نشاء نحن لا الآخرون، ما زال يحدونا الأمل النابت في شرفات المنازل العتيقة، ما دام في الروح ذلك الإكسير يتشرنق في العروق يبلل الشرايين والسنبلة تعانق أعالي الموج ترفل كنجمة ثوت في البعيد.

إنها القافلة تعاود السير وصلاً بالنهار تخوض الغمار تكسر حاجز الحصار، تنثني لتكتب وثيقة للحياة.

إنهم التلاميذ الصاعدون من جوف التراب يشعلون البحر حين الموج مداً وجزراً، يبددون المنافي، من على بحر الشفق تبعث مدينة (موكا) برسالة طياتها يتبلور الفرح، يتراقص الحلم والعلم، فوق أعمدة منصة الاحتفال يرفرف علم الجمهورية، ذلك النسر الذي انتصب بحضن وحصن الجبل شامخاً يحرس العرين.

منذ عهدنا بالوجود على هذا التراب عاش الناس يتشبثون بحقهم في الحياة لا على الحياد بل على ظهور الجياد وقود المعارك ومراراً اشتعلوا فوق المراكب كوقود فحم ليخوضوا الحياة اعتراكاً:

"يكفي اعتسافاً بمثلي أنني يمني"

حين يبدأ الكرنفال كل مساءٍ بعزف النشيد ينتصب الجميع يرددون ما يرقى ليصبح ذلك النشيج:

 "عشت إيماني وحبي أمميا 

ومسيري فوق دربي عربيا 

وسيبقى نبض قلبي يمنيا، 

لن ترى الدنيا على أرضي وصيا".

ثم تلاوة ما تيسر من الذكر كفاتحة للاحتفاء الأكثر من بهجة ومسرات تتبعثر في وجوه الناسكين محاريب الوجود، والعابرين على أرصفة المدينة التي وصلتها سفن العالمين قبل قرون كثر من الزمن، يصطف الحفل الكريم شاخصين بأبصارهم نحوها منصة أنيقة هندسها عقل لا يزال يهندس أطراف المدينة مطار دولي وطريق يكسر الحصار عنها عاصمة المحافظة تعز، ويعمل جاهداً على إعادة تأهيل ميناء البُن الذي ورد ذكره في كتب الحالمين والعالمين بما تخفيه المدينة تحت طياتها وهي تربت عند البحر في خشوع الزاهدين:

"أي سرٍ تحت القميص المنتف؟"

مشاريع نهضة تشهدها مدينة المخا ستجعلها في موضع متقدم بما سيوفره لها من مقومات تنموية ترفد السكان وتعزز خياراتهم في البقاء والنهوض بمدينتهم لتلحق العصر. 

ينشد الأطفال للشهر الكريم مأثورات وأهازيج تتموسق في شفاه الورد تعشب بل تنبت كبراعم نيسان شهر الأريج العابق من مزارع ووديان المخا بريفها الممتد حتى أقاصي الوازعية وموزع والخوخة والساحل الممتد حتى باب المندب.

يتنافسون بقيم الجمال والمواطنة المتساوية، يرتلون بلهجة تهامة الأقرب إلى القلب ببساطتها ورقتها، يستحضرون أفكارهم حين يتنافسون بروح رياضية كما لو يجددون في تاريخ المدينة هذا الكرنفال البهيج، تتنوع الفقرات لتثري المساحة بزخم وتنوع يرخي شعاب القمر.

مسابقة جمعت الناس على اختلاف مناطقهم وقراهم والعزل التي كسرت حالة العزل لتدون في مساءات المدينة القديمة حضورا يبث على موجات الأثير.

حضرت "نون" النسوة بشكل لافت بل حضرت بيوت المخا بكل الوجدان، تزاحمت هنا مشاعر ومزاهر تزهو في وجوه الاطفال وهم يعتلون المنصات مرة يرحبون بالحضور اجمعين ومراراً يسابقون لتدوي الكفوف إثر التصفيق الحار والمدهش لتفوق فتاة وتألق شاب عزز الإجابة بخيار الفوز بجائزة ثمينة.

تنوعت الأسئلة من جغرافيا المدينة إلى تاريخها، إلى أسماء عززوا حضور المجتمع من قديم الزمن حين غابوا وما زالت ذكرياتهم تهز وجدان الناس في هذا البهاء حين يشار إليهم بالرحمة والمغفرة، عن رجال خاضوا معترك الحياة لتشرق المدينة العصية على الترويض.

احتشد الإعلام لنقل الحدث بعد أن أجاد المنظمون ترتيب الأمسيات الثقافية وإن تم حصرها تحت شعار "مسابقة ثقافية لعزل مديرية المخا" فقد تجاوزت لتصبح كما لو كرنفال جماهيري برعاية أكثر من جهة كان شرف الدعم والترتيب والتنسيق لتخرج بهذه الصورة البهية بل والتي ازدانت بهذا الاحتشاد.

فاز الصغار قبل الكبار، نافست المرأة بقوة حين خصصت لها أرقاماً تدخل في سحب وفرز الأسئلة التي توجه للجمهور وسط فقرات تنوعت بين الأنشودة والأغنية والزامل والشعر وكلمات الترحيب والثناء للمساهمين في إخراج الفكرة للنور وكلمات اللجنة المنظمة للكرنفال الذي يدهس كتل الظلام الذي كان جاثماً على صدر المدينة وربما الساحل الغربي برمته.

الحرص على حضور التنوع تجسد بمشاركة النازحين من كل المدن والقرى التي تعرضت للتهجير القسري من قبل مليشيا الحوثيين.

يحضرون ليجسدوا قيم المواطنة المتساوية، بفريقان مع عزل المديرية.

 في نهاية كل مساء هناك جائزة كبرى واحدة للشباب والأخرى للمرأة، بالإضافة لجوائز شتى مقدمة من الداعمين بمختلف القطاعات السياسية والتجارية والاجتماعية والإعلامية. 

 حضور الكشافة المدرسية بالزي الكشفي عكس مدى أناقة الدعم والسند المادي والمعنوي لنجاح المسابقة.

الشرطة أيضاً ساهمت بتوفير الأمن وانضباط النظام كما لو كانت رسالة للعزل الذي فرض على المدينة لسنوات لتحضر العُزل بجغرافيتها المترامية تدون بخارطة الثقافة حضورا يعكس تفوق أبنائها وقدراتهم الفردية والجماعية بينما يخوضون منافسة فيها من الشفافية ما يؤهلها لتصبح أنموذجا ومشروعا أساسا للقادم الذي نثق أنه الأجمل.

حضور الصورة والشاشات ومكبرات الصوت وطائرة الدرونز التي توثق الحدث بتلك الطريقة الأحدث لتغطي المساحة والجوار لتعكس المكان والزمان بين عهدين تخضر الحواري العتيقة وتزدان النوافذ والمشربيات والأبواب المشرعة والمترعة باللهفة لمتابعة الحدث على ذات الموعد.

هذه المسابقة الرمضانية تسجل سابقة وحالة متقدمة جداً ستغدو بمثابة نهج يؤسس لمناسبات عدة تستحقها المخا ومديريات الساحل برمتها.

بلا شك ستتكرر بأكثر من شكل وقالب يلبي حاجة الناس للتنوع الثقافي الزاخر الذي تعتد به المدينة ونواحيها، لتواكب العصر كما لو تنسف دورة الغياب إلى غير رجعة.

لمسافة أسبوع زمن يخوضون منافسات تحتد على خطوط التماس مع السماء على إيقاع الموج يعزفون بكل الشغف ما يبقى ويرقى لتشرق حيث تكون المدينة كعنوان من قديم المدى تعوووود.