حين تم الإعلان فجر السابع من أبريل (نيسان) 2022 عن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي تفاءل كثيرون لم أكن واحداً منهم.
وأتذكر أن أحدهم قال لي "أخيراً انتهت السبع العجاف"، فأجبته فوراً "أخشى أننا خرجنا من السبع السمان"، ولم يكن ردي يحمل مشاعر تشاؤم لأني أؤمن أن للسياسة باباً واحداً، الوقائع على الأرض والأحداث التي تنتج منها وليس أبداً الرغبة والأمنيات.
التفاؤل مكانه مهم في حياة الإنسان العاطفية، وليس مهمة من يعمل في الشأن العام أن يدمنه.
كما أن الإسراف في نشره من دون أن يكون مستنداً إلى عوامل موضوعية هو تزييف للحقيقة وكذب على الناس يؤديان حتماً إلى مزيد من الإحباط ومشاعر الخيبة التي تسكنه جراء معاناة السنوات التسع، وتراكمات عقود طويلة من الإهمال وسوء التخطيط.
منذ الأيام الأولى لتشكيل "المجلس" عقد كثيرون الآمال عليه لانتشال البلاد من حال الركود السياسي الذي تسبب فيه الرئيس السابق عبدربه منصور هادي باحتكاره أدوات صنع القرار وابتعاده من البلاد فترات طويلة، نجم عنها فراغ سياسي أفسح المجال واسعاً لخلق مزاج شعبي غاضب من تقصير وإهمال وفساد مؤسسات الدولة.
ولم تجر أية معالجات جادة وملموسة لتحسين الخدمات وانتظام دفع الرواتب ووقف انهيار قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم وزيادة نسب الفقر على كل المستويات.
كان المتفائلون يرون أن "المجلس" بالتركيبة التي ظهر بها فجأة فجر السابع من أبريل 2022 سيكون قادراً على العمل مع الحكومة بصورة مستمرة ومنتظمة لإحداث تغيير في أسلوب الحكم وانتهاج سياسات حكم مختلفة عما كان واقعاً خلال السنوات الماضية، ولكن الشروخ الباكرة التي ظهرت في العلاقة بين الرئيس والأعضاء أفشلت عمله كمؤسسة حكم جماعي.
وقد كررت كثيراً أن السبب هو عدم وضوح كيفية صنع القرار ومتابعته.
ومن الواضح أن العجز عن ترتيب أوضاع المجلس الداخلية سيزيد الفشل في إدارة البلاد، وهو أمر حيوي في الطريق إلى المفاوضات السياسية مع جماعة "أنصار الله" الحوثية التي تتفوق على الجميع بأحادية القرار وفردية الحكم.
إن الإصرار على تسيير الأمور بطريقة "يومنا عيدنا" لن تجدي، كما أن محاولات اللعب على المتناقضات لا تصلح لحكم بلد يتفتت بسرعة مخيفة، لأن غياب القيادة المدركة القادرة يلقي بظلال كثيفة من الشكوك حول مصير الوطن.
ومن الواضح أن لجوء الجميع إلى الرياض لفك الاشتباكات بين الفرقاء مسألة تؤرق اليمنيين كما تؤرق الحكومة السعودية، لأن الغرض الرئيس من تشكيل "المجلس" هو نقل المشكلات اليمنية إلى قيادات كانت الرياض تعتقد أنها مقتدرة وواعية.
ولكن خيبة الأمل أصابت الجميع، إذ ظهر العجز الذي ينذر بوضع تعقيدات أمام المشروع الذي تقوده الرياض للتوصل إلى وقف مستدام لإطلاق نار يهيئ الطريق للمفاوضات.
ونحن نرى اليوم مظاهر الانقسام داخل "المجلس" واضحة وتنبئ بالمزيد، ويجب الانتباه إلى ظاهرة تمويل انقسام المجتمعات المحلية التي تؤسس لاضطرابات ونزاعات تبتعد من فكرة توحيد القرار.
ومن المؤسف أن الأمر يتم أمام أعين الجميع، والأكثر مأسوية هو انغماس "المجلس" في هذا النشاط المعيب.
قبل أيام استدعت الرياض شخصيات ومكونات حضرمية ذهبت لتشكو مجاميع حضرمية منافسة تختلف معها في تشخيص الموقف.
وهذا أمر يزيد الصعوبات ويبرهن على ما أحدثته الحرب من تهشيم للنسيج الاجتماعي، وعدم القدرة على التوصل إلى اتفاقات محلية حول الحدود الدنيا لمساعدة الناس الذين ينشدون الخدمات والرواتب، بينما القيادات منشغلة بصراع مع طواحين الهواء.
وهذا أمر لا تنفرد به حضرموت، بل تشترك فيه حاضرة أخرى وهي تعز التي تخوض صراعاً بينياً مسلحاً ومجتمعياً بين أبنائها الذين لم يتمكنوا طوال ثماني سنوات من الاتفاق على قاعدة واحدة ينطلقون منها للتفاوض حول تهدئة كاملة تسهم في رفع الحصار عن المدينة بأية وسيلة سلمية.
إن التفتت والتشرذم الذي نشهده جميعاً تجري معالجته بمزيد منه وصل إلى داخل "المجلس"، وهو أمر بالغ الخطورة لأن المشاريع التي يحملها كل عضو تختلف حد التناقض عما يفكر ويرغب فيه أعضاء آخرون.
وهذا من شأنه وضع مزيد من العراقيل أمام فكرة توحيد القرار السياسي.
كما أن الخطاب الذي ألقاه رئيس "المجلس" رشاد العليمي باسم زملائه السبعة لمناسبة اليوم الوطني (قيام الجمهورية اليمنية) حمل كثيراً من التناقضات السياسية العجيبة، وقدم اعتذاراً ظاهراً ورسمياً نيابة عن المجلس وعما قال إنه انحراف لمسار المشروع الوحدوي وإفراغه من مضامينه، مبرئاً نفسه ومتبرئاً من المشاركة في الحكم الذي كان واحداً من أهم عناصره، وكان له موقف معروف وسلبي للغاية من الحراك السلمي الجنوبي الذي انطلق عام 2007 حين كان وزيراً للداخلية ومتسقاً حينها مع الرؤية السياسية في تلك الفترة، وكان مقتنعاً بعدم جدية المحتجين وتحقيرهم وهزالة مطالبهم.
وفي السياق ذاته فإن المجلس الانتقالي الجنوبي صار يتمتع بحضور جماهيري أكبر، لكنه لا يزال يعيش حالاً من الازدواجية، إذ يتمسك بالمشاركة في هيئات الحكم القائمة، وأقسم ممثلوه على الحفاظ على الوحدة اليمنية بينما هم يعملون بحماسة على تحقيق استعادة الدولة.
إن كل ما يدور في هذا البلد ليس أكثر من ترحيل لمشكلات الناس بأسلوب بدائي لا يتسق مع حجم القضايا التي تواجهه، بل تهرول بها القيادات الحاكمة بسرعة فائقة إلى هاوية سحيقة لن يتمكن أحد من إيقافها.
ولعلي أتذكر هنا ما حذرت منه في مارس (آذار) 2013 بأن البلد ليس فيه قيادة راشدة قادرة على وضع رؤية عاقلة قابلة للحياة:
"اليمن يسير بسرعة فائقة نحو هاوية بلا قرار، ولا أرى في يمني الحالي ما يزيل شكي ويأسي، وبات اليمني يطلب من الله ضارعاً: اللهم نجني من شر أنفسنا وإخوتنا وأصدقائنا".
*نقلا عن موقع "إندبندنت عربية"