فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

ليس دفاعاً عن "الاشتراكي"، بل عن العقل السياسي الحزبي باليمن

Friday 26 May 2023 الساعة 05:48 pm

بخصوص نقد وتقييم تجربة حكم الحزب الاشتراكي اليمني في جنوب اليمن، كثيراً ما وقفت على بعض المقابلات والبرامج المتلفزة التي تبث على القنوات الفضائية، وكذا على بعض المقالات أو الرؤى التحليلية الناقدة.

 كان آخرها مقال وقفت عليه للكاتب الكبير طاهر شمسان بعنوان {المجلس الانتقالي، حالة قبلية في الجنوب وليس حالة جنوبية في اليمن} بحيث بدأ الكاتب مقاله عن الانتقالي بالحديث عن الصراع السياسي المسلح في عام 1986م.

 وهو مقال ذو قيمة تحليلية نقدية يستحق الوقوف عليه والوقت المبذول في قراءته، ناهيك أن زمن الانتهاء من قراءة مقال الكاتب طاهر شمسان كان هو الوقت الذي تولدت فيه الرغبة لديَّ في كتابة مقالي هذا.

مع تعدد القراءات بخصوص تجربة الحزب الاشتراكي اليمني من الطبيعي أن نجد أنا وغيري من القراء بعض الكتابات النقدية التي تكتب بنفسية متجردة خالية من أي تشوهات، وكأن صاحبها يطارد الحقيقة، بغض النظر عن المصب السياسي الذي سوف يرمي المقال حمولته النقدية فيه، والبعض منها تكتب بنفسية مشحونة مسبقاً بالأحكام السياسية والايديولوجية تجاه الآخر بشكل مكثف، الأمر الذي يجعل المقالة فواحة برائحة الكراهية والصراع السياسي حتى بعد أن يفقد الصراع السياسي مبرر وجوده في ظل متغيرات جديدة.

 وكأن صاحبها حين يكتب مقالته هذه، فقط يطارد المقالة المنصفة لتجربة الحزب الاشتراكي اليمني أو يقف في وجهها، بغض النظر إن كان مثل هذا سوف يتم على حساب تشويه الحقائق التاريخية والسياسية لجيل من المناضلين اليمنيين الوحدويين وحتى الوجه المشرق في تجربتهم السياسية التي كانت وما زالت تشكل مفاعيل بنيوية وجهازا مفاهيميا، وحتى إرثا سياسيا في مسار التوجه السياسي والاجتماعي الوحدوي نحو المستقبل الذي يجب أن تنتصر في ظله الفكرة الوطنية الديمقراطية. 

وإذا كان هذا هو حال المقالة المكتوبة، فإن البرامج المتلفزة على شاشة القنوات الفضائية اليمنية هي الأكثر توجها نحو تشويه تجربة الحزب الاشتراكي اليمني في الجنوب دون الاعتراف بمحاسن التجربة وتحديداً قناة "يمن شباب" الفضائية التي تقدم نفسها منبراً سمجا للفعل السياسي تجاه الآخر أكثر من كونها منبراً إعلامياً معنيا في المقام الأول بمسألة الانتصار المهني للحقيقة السياسية التاريخية، وحتى عندما تستضيف بعض القنوات الفضائية اليمنية قيادات وأعضاء في الحزب الاشتراكي تعمل على اجتزاء كلامهم بشكل يخدم في المقام الأول الفعل السياسي للقائمين على القناة الفضائية.

وفي المقام الثاني يعمل هذا الاجتزاء الانتقائي الذي يعرض بعض حديث الضيف دون بعضه الآخر على حجب كامل الحقيقة لدى المشاهدين {توظيف سياسي} كما حدث مؤخراً في البرنامج المسجل الذي نشرته قناة "بلقيس" الفضائية عن حرب 1994م مع أن قناة بلقيس تشكل حالة متقدمة مقارنة بقناة يمن شباب.

في كل الأحوال تجربة الحزب الاشتراكي في الجنوب ليست مقدسة من سهام النقد ولا يجب أن تكون كذلك، فهي تجربة حدثت في سياق تاريخي وفي ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية وحتى ثورية تعكس واقع حال اليمنيين في مرحلة تاريخية، الأمر الذي يجعل من الكتابات النقدية التي تطارد الحقيقة في ظل الظروف المحيطة بها بغض النظر عن المصب السياسي الذي سوف يرمي المقال حمولته النقدية فيه: هي الأكثر مصداقية في تناول أي تجربة سياسية في اليمن.

 ومع ذلك أعتقد -شخصياً- أنه من الإنصاف أن نقف على بعض الأطروحات التي لا أريد من خلالها تقوية حجة المقالة السياسية المنصفة لتجربة الحزب، بقدر ما أريد من هذه الأطروحات أن تتحول إلى مادة سياسية فكرية تخدم الفكرة الناقدة "بحد ذاتها" في سياقات وطنية ديمقراطية وحتى وحدوية، سيما في حال إن أخذنا في الاعتبار مفاعيل الفكرة الوطنية الجامعة خلال تجربة الحزب الاشتراكي في الجنوب مقارنة مع واقع حال الجنوب اليوم بعد أن أمعنت السلطة الحاكمة في صنعاء من بعد صيف 94 في مسألة إضعاف دور الحزب الاشتراكي اليمني في جنوب اليمن:

1- في اعتقادي أن تجربة الحزب الاشتراكي اليمني في جنوب اليمن تكتسب أهمية استحضارها "اليوم وغدا" على المستوى الوطني بنفس أهمية وجودها في الماضي كتجربة نضالية خاضها العقل السياسي الحزبي في جنوب اليمن، وذلك قياسا على المشكلة السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية في اليمن، سيما وأن جذر المشكلة اليمنية يتعلق دائما بسؤال السلطة والثروة وشرعية الحصول عليهما، ناهيك عن فشل المجتمع في فض حالة الاشتباك القائم بين الماضي والحاضر بناء على فكرة التقدم الحضاري التي ستجعل مستقبل الأجيال القادمة خاليا من أي حضور تاريخي رجعي على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي في اليمن.

 بمعنى آخر إذا كانت مشكلة اليمنيين في الماضي والحاضر تعود في الأساس إلى عدم وجود دولة وطنية ديمقراطية حاكمة تعمل على تحويل اليمن إلى وطن وسكانها إلى مواطنين يخضعون لأحكام المواطنة، فإن بدهيات تأسيس هذه الدولة الوطنية الديمقراطية تقتضي بالضرورة فض حالة الاشتباك القائمة تاريخياً بين حضور العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن بكل نماذجه السياسية وبين الكيان السياسي الحاكم في اليمن {السلطة} لأن فض حالة الاشتباك القائمة تجعل السلطة في اليمن مؤهلة سياسياً وفكرياً وحتى ثقافياً إلى أن تتحول إلى دولة.

من هنا تأتي أهمية تجربة الحزب الاشتراكي في حكم جنوب اليمن، لا لكونها تجربة الاشتراكيين الايديولوجيين الذين يعيشون حالة صراع وجودي مع الآخر الأيديولوجي، بل لكون الحزب الاشتراكي الذي حكم في جنوب اليمن هو أحد أدوات العقل السياسي الحزبي الذي يجب أن ننتصر لسلطته في اليمن على حساب سلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن {السلطة القبلية والسلطة المذهبية والسلطة الجهوية المناطقية} هذا إذا كان ما نريده في اليمن تحويل السلطة إلى دولة.

2- إذا كانت صيرورة الدولة تقتضي تحول الدولة إلى دولة وطنية ديمقراطية، فإن هذه الصيرورة على المستوى السياسي تحتاج في نفس الوقت على المستوى الاجتماعي إلى وجود تعبيرات ومكونات سياسية اجتماعية تتشكل تنظيميا على امتداد الجغرافية الوطنية بشكل عام، أي يتشكل كيانها الوجودي التنظيمي على امتداد الهوية الوطنية الجامعة للمكون الإنساني في أي دولة.

 وهذه الحاجة الوطنية التي سوف تشكل على المستوى الأفقي بنية تحتية للدولة الوطنية الديمقراطية، لا يستطيع أن يقوم بدورها وإشباعها كحاجة وطنية سوى العقل السياسي الحزبي الذي يؤسس أحزابا سياسية يتواجد أعضاؤها في كل قرية وفي كل مديرية وفي كل محافظة، بعكس مكونات العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن (مثل: القبيلة السياسية والمذهبية السياسية والجهوية والمناطقية) لا تستطيع أن تشكل حالة امتداد تنظيمي سياسي على كامل التراب الوطني لأن مكوناتها الإنسانية لا تتواجد في كل القرى والمديريات والمحافظات، ما يعني في النتيجة إذا كانت أهمية العقل السياسي الحزبي في أي بلد تأتي من قدرة هذا العقل على تقديم مشروع سياسي وطني يلبي طموحات الشعب السياسي على أساس الهوية الوطنية الجامعة، فإن أهمية تجربة الحزب الاشراكي اليمني في جنوب اليمن -بقدر ما نجدها إلى حد كبير- كانت تعكس تطلعات الشعب في تأسيس دولة النظام والقانون والعدالة الاجتماعية في الجنوب، بقدر ما نجد أن الحزب قد بلور مشروعه السياسي على أساس الهوية الوطنية الجامعة لليمنيين ليس على مستوى الشطر الجنوبي فقط، بل على مستوى اليمن بشكل عام.

فالعقل السياسي الحزبي عندما عمل على تأسيس حزب سياسي على أنقاض التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية (الحاكمة في الجنوب) أسس الحزب الاشتراكي اليمني على مستوى جنوب اليمن وشماله كحزب واحد وقيادة سياسية واحدة في زمن التشطير السياسي بين صنعاء وعدن، الأمر الذي جعل الوحدة اليمنية هي القضية المركزية النضالية للحزب الاشتراكي اليمني، بل إن الحزب حولها في خضم معركة الهوية والانتماء إلى حالة وجدانية شعبية، وطنية، مطلبية، حتى تم تحقيقها في الواقع.

 وبهذا الخصوص أكاد أجزم بأن الجنوب بعد نيل الاستقلال الوطني لو لم يخضع لسلطة العقل السياسي الحزبي الذي لم يغرق في فساد السلطة والثروة والمصالح الشخصية، بل جعل من الوحدة مشروعا سياسيا لليمن الكبير لولا ذلك لنجحت القوى المعادية للوحدة في مسألة تحويل الجنوب والشمال إلى دول قطرية ذات حدود وطنية منفصلة عن بعضها البعض، على غرار تلك الدول التي تأسست بحدود وطنية داخل الوطن العربي من العدم، وما زالت حتى اليوم سيما مع محدودية السكان وحجم الثروات المتاحة قياسا على عدد السكان في جنوب اليمن.

 قد يقول أحدهم إن التاريخ يحدثنا منذ قرون عن اليمن الواحد من قبل أن يوجد مسمى الوطن العربي وقبل أن يوجد العقل السياسي الحزبي، ومع ذلك نقول إن التاريخ نفسه يعجز عن تقديم دليل واحد يقول إن اليمن الطبيعي في التاريخ قد خضعت لسلطة مركزية واحدة أو لسلطة دولة واحدة على كامل التراب اليمني ما يعني أن تحقق وحدة الأرض والإنسان والسلطة في اليمن على أساس الفكرة الوطنية تمت على العقل السياسي الحزبي، الذي قدم التنازلات باسم الشطر الجنوبي في سبيل تحقيق الوحدة اليمنية في 1990م.

القيمة التاريخية في مسألة تكوين الحزب الاشتراكي اليمني وتجربته السياسية في جنوب اليمن، يتجلى شأنها اليوم على المستوى الوطني وحتى الوحدوي في الحديث عن القيمة الوطنية الديمقراطية وأهمية حضور دورها الفاعل داخل الوجدان السياسي للأجيال القادمة في اليمن. 

وإذا كانت أهمية القيمة التاريخية والوطنية لا تعني بالضرورة أن مسألة الانتصار للقيم السياسية الوطنية الديمقراطية تتعلق اليوم بوجود الحزب الاشتراكي اليمني بذاته دون غيره من الأحزاب السياسية، فإنها تعني بالضرورة أن العقل السياسي الحزبي بشكل عام وحده هو القادر في كل الأحوال على تقديم نفسه حليفا للفكرة الوطنية وحتى للشعوب التي تخوض معركة التحولات السياسية والاجتماعية من حاضر وجودها كمجتمعات تقليدية عصبوية إلى مستقبلها كشعوب سياسية مدنية ومن حاضر سلطتها التاريخية التقليدية إلى مستقبل الدولة الوطنية الديمقراطية.

وعطفا على ذلك إذا كانت معركة التغيير في اليمن لا تعني سوى أن تتحول اليمن إلى وطن ودولة لليمنيين، فإن معركة التغيير نفسها سوف تكون أكثر نجاعة ووعيا بجذر المشكله اليمنية عندما ندرك أن معادلة الصراع السياسي في تاريخ اليمن الحديث تتشكل منذ ثورة الـ26 من سبتمبر وحتى انقلاب الـ21 من سبتمبر على شاكلة صراع وجود بين العقل السياسي الحزبي الطامح في حكم مستقبل اليمن والعقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن، وأن هذا الأخير يظل قادرا على ضرب فرص التغيير السياسي والاجتماعي مع كل ثورة في اليمن.