بالأمس علقت على بوست أنزله على صفحته بالفيسبوك القاضي الأديب ورجل القانون عبد العزيز البغدادي.
وقد تطرقت في تعليقي إلى موضوع الأديان الوراثية.
وقادني ذلك التعليق للكتابة عن خطر الأديان الوراثية وخطر إيمان العجائز على المجتمع.
وقد حضرت ندوة تعليمية صوفية لمريدين يعلمهم شيخهم التسليم المطلق لكل ما يقال في الغيبيات أو فيما يعرف بالحقيقة والشريعة أو اللاهوت والناسوت، ويسخر ممن يطلب الدليل أو التثبت من صحة ما يقال للمريد، وعليه الاتباع في المنشط والمكره.
وأثناء سماعي لما كان يمليه ذلك الشيخ لمريديه تذكرت كلمة لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي يقول: إن المعجزات لا تدل على صحة الاعتقاد قائلا:
لو جاء رجل وشق البحر بعصاه أو حولها إلى ثعبان ثم قال لك صدقني إن 2+ 3 =100 فسوف لن تصدقه لكنك ستعجب مما أتى به من الخوارق.
أي أن من الواجب أن لا يؤمن المرء بشيء أنه حقيقة ما لم يكن كذلك.
وغني عن البيان ما للعقائد الوراثية من دور في إفساد دين الفطرة.
فالأديان الوراثية التي يتلقاها الخلف عن السلف وراثة دونما تمحيص أو إعمال عقل مهما كان مصدرها سماويا أم وضعيا فكلها متساوية عند معتنقيها، وكل يعتبر ما ورثه هو الدين الحق ويقيس من خلاله صحة عقائد الآخرين من فسادها.
قد يقول قائل: الإسلام آخر الديانات وهو أصح الأديان السماوية فأقول إن أي دين يتلقاه المعتنق له وراثة متساو مع أي دين وراثي آخر، وذلك لأن التقليد جهل ولا تفاضل بين جهل وجهل، كما أن من الثابت أنه يشك في نجاة المقلد.
وقد نعى الله أولئك الذين يتمسكون بدين آبائهم فقال عز من قائل مخاطبا رسولنا الكريم:
﴿وكَذَلِكَ ما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إلّا قالَ مُتْرَفُوها إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف 23].
وقال عز من قائل أيضا:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ ..} [لقمان 23].
كما أنه روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام حديث صحيح المتن وإن كان راويه متهما بالتدليس يقول الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تناتج الأبل من كل بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء؟).
وقد قال إخوان الصفاء إن الشريعة قد دنست وأن لا علاج لها إلا بالحكمة أي بالفلسفة.
وأقول إن فلاسفة الإسلام قد عالجوا الأديان الوراثية وقوموها عن طريق ابتكار الشك المنهجي..
حيث يعتبر الجاحظ والإمام أبو حامد الغزالي وديكارت من الفلاسفة الكبار الذين عنوا بالشك المنهجي من أجل الوصول إلى الحقيقة.
وتتجلى ملامح عبقرية الجاحظ في قوله عن الشك المنهجي: «واعرف مواضع الشَّك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة لـه، وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التَّوقُّف ثُمَّ التَّثبُّت، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه.
ثمَّ اعلم أنَّ الشَّكَّ في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجمعوا على أنَّ اليقين طبقات في القوَّة والضَّعف».
وغني عن البيان القول بأن الجاحظ في هذا النص لم يرد الشَّكَّ لمحض الشَّك، ولا يقبل أن يكون الشَّكُّ كيفما اتَّفق ولا في كلِّ أمرٍ على حدٍّ سواءٍ ولا بالطريقة ذاتها؛ بل إن الشَّك الجاحظيَّ، بهذا المعنى، لا يختلف البتة عن الشَّك المنهجيِّ عند الإمام الغزالي والفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت، فكلُّ منهم أراد الشَّكَّ طلباً للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة، التي لا تقبل تفاوتاً في الدَّرجات.
وقد أضاف الغزالي بعد أن قال إن ما يكتبه يُحَمَلُ على ثلاثةِ أوجه: وجهٌ يُدافع به عن عقائدَ العوام كما في كتابه إحياء علوم الدين، وقول يقوله على قدر السائل والمسترشد..
وفقا لما جاء في كتب حجة الإسلام وبخاصة تلك المظنون بها على غير أهلها، مثل كتابه "ميزان العمل" و"المنقذ من الضلال: و"معارج القدس" .
وأما يعتقده هو وما توصل إليه عن طريق الشك المنهجي، فيقول لنا حجة الإسلام بأنه يحتفظ بها لنفسه ولا يبوح بها إلا لمن يشاركه الاعتقاد، ثم يقول: إذا لم يشكك هذا في اعتقادك الموروث فكفى بذلك نفعا فإن من لا يشك لا ينظر ومن لا ينظر بقي في العماية والضلال مستشهدا ببيت شعر لحكيم الشعراء -النبي- المتنبي:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل!
وأما ديكارت فقد تمحورت فلسفته حول الشك المنهجي الذي يقود إلى اليقين أيضا فقد وضع مقالة أطلق عليها: "المقال في المنهج" قدم فيه تنظيرا بديعا للتخلص من العقائد الوراثية أو قل لاختبار صحتها من عدمه دقيقا فأثبت وجود الله ووجوده "الكوجيتوا"، فاستحق أن يطلق عليه أعظم فلاسفة العصر وأطلق عليه "أبو الفلسفة" كما أطلق على سقراط "أبو الفلسفة" في العصر اليوناني القديم.
وقد صحح ديكارت من خلال ذلك المقال الكثير من النظريات العلمية في كل العلوم بما في ذلك نظريات فيثاغورس التي ظل الناس يعتبرونها صحيحة لقرون عديدة حتى جاء ديكارت فصحح الكثير من أخطاء فيثاغورس في مبرهنته الرياضية وعلاقتها بالهندسة الإقليدية بين أضلاع المثلث، بل قال لو يمتد به العمر ويجد مساعدين لطبق منهجه الموسوم ب: "مقال في المنهج" في كل العلوم، وأساس ذلك المنهج هو الشك لنوصل إلى اليقين قال إنه تنزل عليه في لحظة تأمل عن الفلسفة المدرسية والخلافات القائمة بين مدرستي أرسطو وأستاذه أفلاطون.
فدون ديكارت المنهج في مقالته وفي كتبه وكانت بمثابة ميزان لقياس صحة الأفكار والتوصل إلى الصواب من عدمه، وبه أصبح أبا الفلسفة المعاصرة، حيث صحح نظريات في علوم كثيرة كالبصريات والهندسة والرياضيات وقال: إن منهجه صالح للوصول إلى كل الحقائق والعلوم التي مثلها بشجرة جذورها الميتافيزيقا، أي العلوم الغيبية وجذعها الفيزيقا وله ثلاثة فروع؛ علم الطب وعلم الأخلاق وعلم الميكانيكا وكل العلوم تندرج وتتفرع من هذه العلوم الثلاثة، وأن ما يفتقر إليه هي وسائل وأدوات العلوم التي تختصر له الوقت واعتبر الوسيلة أو الجهاز أهم من اكتشاف أي نظرية.
كما عمل على تصويب نظريات فثاغورس، وتوصل إلى علوم البصريات والتشريح، فشكه شك منهجي، أي بغية الوصول إلى اليقين.
وهذا النوع من الشك يمكن أن نطلق عليه بالشك الإبراهيمي، وهو عينه شك فلاسفة الإغريق القدماء السبعة.
فما أحوجنا اليوم لمثل هكذا شك ونحن نتعامل مع قلقلات وعنعنات ما أنزل الله بها من سلطان فيها الغث والسمين، طالما ولدينا معيار الكتاب المبين، لنصوب كل المرويات التي مزقت الأمة الإسلامية إلى فرق وشيع تكفر بعضها بعضا...!!
لنطهر الموروث ولكي نصل إلى دين الفطرة فلا بد من التوجه لمراجعة التراث وإزالة ما علق به من شوائب عبر القرون، وبخاصة المدسوسات والموضوعات التي شوهت الإسلام وسدت منابعه النقية وعلاجها هو الشك المنهجي المؤدي لعلم اليقين.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك