فهمي محمد
القصور الثوري في "حركة 48" الإصلاحية
الحديث عن ثورة الـ26 من سبتمبر 1962م، ومحنتها مع دولة الجيوسياسية الزيدية في شمال اليمن وحتى في سبيل إيضاح القيمة السياسية والوطنية لثورة ال26 من سبتمبر الخالدة، يستدعي الحديث عن الحركة الإصلاحية التي قادها الزبيري والنعمان في 1948م، خصوصاً وقد نجحت هذه الحركة في اغتيال إمام السلالة السياسية يحيى حميد الدين في 17 فبراير 1948م.
لكنها في نفس الوقت لم تكن مؤمنة "مطلقا" بفكرة التغيير الثورية الراديكالية المعنية بإسقاط الإمامة كسلطة سياسية سلالية، ولا حتى الملكية كشكل من أشكال النظام السياسي الوراثي في شمال اليمن {جذر المشكلة}.
هذا القصور الثوري في المشروع السياسي للحركة الإصلاحية في عام 1948م، يعود في الأساس إلى حقيقة أن دستور الحركة {الميثاق المقدس} لم يكن من فعل العقل السياسي الحزبي (مقارنة بأهداف ثورة سبتمبر) بل كان الميثاق المقدس من فعل عقل سياسي إصلاحي مرتبط بشكل أو بآخر بثقافة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن.
قد يعترض البعض على هذا التوصيف بالقول إن "أبو الأحرار محمد محمود الزبيري" وهو العنوان البارز في حركة 1948م، كان أحد المنتسبين لحركة الإخوان المسلمين، بل هو من مؤسسي حركة الإخوان المسلمين في اليمن، ما يعني أنه محسوب على العقل السياسي الحزبي وليس العكس.
ومع ذلك فإن انتساب الزبيري لحركة الإخوان المسلمين مسألة تؤكد ما ذهبت إليه هذه الدراسة في تحليلها السياسي بخصوص القصور الثوري في دستور حركة 1948م الميثاق المقدس.
فالخطاب / السياسي / الفكري / لحركة الإخوان المسلمين كان في حده الأعلى يكفر العقل السياسي الحزبي وفي حده الأدنى يحرم الحزبية والتعددية السياسية.
لهذا فإن دستور 1970 في شمال اليمن كان مخرجا سياسيا من مخرجات هذا التوجه الفاعل لحركة الإخوان المسلمين بشكل خاص ومخرجا سياسيا ثقافيا للعقل السياسي الحاكم تاريخياً في شمال اليمن بشكل عام.
فيما يتعلق بفكرة التغيير «الإصلاحية» نستطيع القول إن عنوانها السياسي البارز في الميثاق المقدس لحركة 1948، كان الدستور ومبايعة عبد الله الوزير إماماً شورويا، ولكن مع الحفاظ على الإمامة كسلطة سياسية سلالية، وحتى على الملكية كنظام سياسي وراثي في شمال اليمن، وكأن المشكلة كانت يومها في بقاء الإمام يحيى حميد الدين، من عدمه على رأس السلطة الحاكمة في صنعاء.
مع أن جذر المشكلة وأسبابها كانت مرتبطة أساساً ببقاء سلطة الإمامة ومشروعها السلالي والنظام السياسي الوراثي، الأمر الذي كان يستدعي العمل بفكرة التغيير -الثورية الرايدكالية- التي يجب أن تتولى مسألة التغيير الجذري للواقع السياسي والاجتماعي، بالمعنى الذي يعني إسقاط الإمامة و التوريث، سيما وأن الميثاق المقدس الذي جعل مقاليد السلطة كلها بيد الإمام الوزير، نجده في نفس الوقت خاليا من النص الدستوري الذي يحرم على الإمام الشوروي توريث سلطته الإمامية في أبنائه.
وهو ما فطن إليه بيان سبتمبر الذي أذاع الأهداف السته لثورة الـ26 من سبتمبر التي كانت معبرة في الأساس عن فلسفة العقل السياسي الحزبي الذي تعاطى يومها مع فكرة التغيير الثورية الرايدكالية تجاه الواقع السياسي والاجتماعي في اليمن، أي إسقاط الأغطية السياسية التي تشرع لمسألة توريث السلطة السياسية(الإمامة والملكية).
هذا فإن ثورة سبتمبر هي ثورة الجمهورية التي تجعل من أهدافها السته المحتوى السياسي والاجتماعي للنظام الجمهوري، في حين تتجسد الجمهورية مع مشروع سبتمبر بوجود دولة وطنية ديمقراطية، ما يعني في النتيجة أن مسار المستقبل كان متوقفا على محك الفارق بين الدولة الوطنية الديمقراطية في ظل الجمهورية ودولة الإمامة السلالية الشوروية في ظل الملكية
الحديث عن القصور الثوري المتعلق بتوجه المشروع السياسي لحركة 1948 في شمال اليمن، يعني أن الحركة لم تجعل فكرة التغيير تتعاطى مع جذر المشكلة السياسية والاجتماعية والثقافية في اليمن، بقدر ما تعاطت مع المشكله السياسية المتعلقة بشخص الإمام يحيى وتوجهه السياسي الذي وقف في وجه المطالب الإصلاحية، الأمر الذي دفع بحركة 1948 "الإصلاحية" إلى خيار نقل مقاليد السلطة السياسية الحاكمة من بيت يحيى حميد الدين إلى بيت الوزير في إطار السلالة السياسية الطامحة في السلطة الحاكمة.
زد على ذلك أن هذا الانتقال في مقاليد السلطة كان في نفس الوقت داخل إطار الجيوسياسية الزيدية.
ما يعني في النتيجة النهائية أن الميثاق المقدس أو دستور حركة 1948م بقصد أو بدون قصد، كان يسهم من حيث مخرجاته السياسية في تكريس مسألة الاستحقاق التاريخي للسلطة السياسية في ظل الدستور، ليس فيما يتعلق بسلطة الإمامة والسلالة في الشمال فقط، بل فيما يتعلق بالمركزية المقدس للجيوسياسية الزيدية.
وإذا كان الفرق الجوهري لدى الحركة فيما يتعلق بسلطة الإمام يحيى وسلطة الإمام عبدالله الوزير يكمن بمنح سلطة عبدالله الوزير "الإمامية" مشروعية المبايعة الشوروية "الإسلامية من قبل القيادة السياسية للحركة، إلا أن مسألة تحويل مسألة الشورى إلى حالة سياسية دستورية وقانونية ملزمة للإمام عبد الله الوزير تطرح علينا سؤالا مفصليا يتعلق بعدم قدرة الشورى على التحول من الفكرة النظرية إلى نظام سياسي مؤسسي، سيما في ظل الإمامة التي تعمل دائما على تأسيس سلطتها السياسية الحاكمة على النص الديني، زد على ذلك في ظل وجود الملكية التي تعطي للحاكم الحق في توريث السلطة الحاكمة.
بمعنى آخر إذا كانت الشورى قد ظلت عبر التاريخ الإسلامي فكرة سياسية نظرية غير قادرة عملياً على مواجهة سلطة قريش (العصبوية السلطوية) في ظل دولة الخلافة الإسلامية، فهل كانت بموجب الميثاق المقدس سوف تصبح قادرة على مواجهة سلطة وعصبية السلالة السياسية في ظل (الإمامة والملكية)؟!
ناهيك عن هذا القصور الثوري في التوجه السياسي للميثاق المقدس، فإن قيادة حركة 1948م اتفقت يومها على وقف تنفيذ العمل بنصوص الميثاق المقدس {دستور الحركة} إلى ما بعد الموت الطبيعي للإمام يحيى حميد الدين، وتعليل ذلك بالقول إن الإمام يحيى حميد الدين قد أصبح شيخا طاعنا في السن وموعد رحيله لن يطول كثيرا على اليمنيين، لهذا لا يجوز التفكير في "قتله" أو اغتياله سياسياً.
إلا أن نشر إشاعة الخبر الكاذب عن موت الإمام يحيى واستعجال أبو الأحرار محمد محمود الزبيري الذي كان يعيش في عدن بنشر الميثاق المقدس في إحدى الصحف الصادرة في عدن، ووصول تلك الصحيفة إلى قصر الإمام في صنعاء، سيما وأن الوزير كان يعمل في قصر الإمام يحيى الذي لم يمت بعد، كل ذلك قد دفع بالقيادة السياسية لحركة 48 إلى اتخاذ قرارها بشأن اغتيال الإمام يحيى وابنه ولي عهده الأمير أحمد بن يحيى والي تعز وحاكمها.
مع نجاح عملية اغتيال الإمام يحيى حميد الدين التي أسند تنفيذها للمناضل القردعي، استولت قيادة حركة 48 على السلطة السياسية الحاكمة في العاصمة صنعاء، وتحول الميثاق السياسي المقدس إلى دستور لسلطة إمام السلالة الجديد {عبدالله الوزير}.
إلا أن مسألة فشل الحركة في اغتيال ولي العهد أحمد بن يحيى حميد الدين والي تعز يومها، قد مكنت هذا الأخير الذي بقي على قيد الحياة من استنفار قبائل الجيوسياسية الزيدية بدافع الغنيمة وتحت مبرر أن هؤلاء الدستوريين خارجون عن أحكام الشريعة الإسلامية، أو المدسترين وهي الكلمة التي تحولت في الثقافة الشعبية منذ 1948 إلى مذمة وانتقاص للشخص الذي توجه إليه، أو كلمة «ما نتش مدستر يا أخي أو يا ابني» وهي الكلمة التي كانت تقال في الخطاب الشعبي للشخص الطائش في تصرفاته ما يعني في النتيجة تحويل دعاة الدستور إلى أشخاص غير سويين في نظر المجتمع.
لكن الأهم من ذلك أن ثقافة الدسترة المذمومة التي تشكلت منذ 1948 قد أسهمت في جعل دولة الجيوسياسية الزيدية لا تتأسس على مسألة الحضور التاريخي، وعلى مركزيتها الجيوسياسية الممانعة لفكرة التغيير فقط، بل وجدت نفسها مع حاضر كل جيل تتأسس على ثقافة العداء لفكرة الدستور والعمل به أو الاحتكام إليه، وحتى العداء للاتفاقيات والمخرجات السياسية التي يلزم منها تأسيس الدساتير الحديثة في اليمن.
وعلى وجه الخصوص الدساتير التي تعمل على تفكيك المركز السياسي المقدس وفي نفس الوقت تؤسس بنية السلطة السياسية الحاكمة في صنعاء على ثقافة الفكرة الوطنية الديمقراطية.
لهذا كان لا بد من الانقلاب على اتفاقية الوحدة اليمنية وعلى دستورها الموقع بين سلطة صنعاء وعدن، وكان لا بد من الانقلاب على مخرجات الحوار الوطني الشامل، وعلى دستور الدولة الاتحادية في اليمن، خصوصاً وأن تطبيق هذا الدستور كان يعني التفكيك الحقيقي والفعلي لدولة الجيوسياسية الزيدية التي تأسست في سياق الثقافة التقليدية العصبوية للمركز السياسي المقدس، وظلت حاضرة على الدوام في ظل الملكية والجمهورية والوحدة اليمنية.