لا يجب أن يكون الحديث عن "اليوم التالي" بمثابة قفز متعمد فوق كارثة دمار غزة وجراح ومعاناة وآلام أبنائها.
المحتوى الذي يتضمنه الحديث يبدو وكأن الأمر يقصد به سحب وعي العالم، المأخوذ ببشاعة المشهد، والمستغرق في مأساة العصر، وجره إلى محطة افتراضية ينشغل فيها هذا الوعي بتسطيح هذه المأساة ومحوها من الذاكرة باعتبارها مجرد حلقة في صراع طويل لا قضية له ولا محتوى.
يهرب هذا الحديث من حقيقة أن هذا الصراع يقف فوق مأساة شعب طرد من أرضه، ونهبت حقوقه، واستخف بانسانيته، وتم تجاهل مقاومته وتضحياته، إلى جزئيات لا تمت بصلة لتاريخ وجذر هذا الصراع، ودور الدول الكبرى في رعاية ذلك الصراع كجزء من سياساتها التي تقوم على حقن العالم بمشكلات تجعله في حاجة مستمرة لتدخلها بأدواتها السياسية والعسكرية.
وهي لا تتذكر حاجة العالم إلى السلام إلا حينما يذكرها بذلك اشتعال هذا العالم بالحروب، أو تحت ضغط الرأي العام، الذي شكل موقفه من الحروب علامة فارقة بين الشعوب ونخبها الحاكمة. فلو أن هذه النخب جعلت من السلام هدفاً ملازماً لتلبية حاجة البشرية الى الاستقرار والرخاء والتعاون والتفاهم والتعايش بعدالة لا يكدرها التقسيم غير العادل للثروة لما قامت الحروب من الأساس.
ومع ذلك فإن الحروب، وقد أصبحت حقيقة من حقائق الحياة في عالم لم يعمل كل ما يجب عمله من أجل السلام، وما يصاحبها من كوارث وآلام، فإنها غالباً ما تخلق على نحو موازٍ لها الظروف المناسبة لحل أكثر القضايا البشرية تعقيداً، لأن الحرب هي آخر ما يستطيع العقل البشري أن يقوم به من اختراق إلى قلب المشكلة بهدف إيجاد الحل الذي كان يبدو في غاية التعقيد قبل الحرب.
وتتوقف المسألة هنا على رغبة القوى، التي وُضِع بيدها مصير العالم، في توجيه بوصلة الحرب.
إن الحديث بصورة انتقائية عن كيفية إدارة غزة بعد الحرب، يعكس فهماً مغلوطاً للحقيقة، وكأن ما يجري في غزة معزول عن القضية الأساسية وهي احتلال فلسطين، وكفاح شعبها المتواصل والطويل من أجل الحرية واستعادة دولته.
هنا تكمن الحقيقة التي يجري تجاهلها، وهي أن القضية التي ارتبطت بها هذه الحرب، وهذا الدمار الهائل، والعنف الذي لم يتوقف منذ 75 عاماً لا بد أن تكون محور الحديث عن "اليوم التالي"، أي حق الفلسطينيين في الحصول على حريتهم، وإقامة دولتهم بموجب قرارات الشرعية الدولية. وبدلاً من الانتظار حتى يفرغ من تدمير غزة، وسفك دماء الفلسطينيين ليقرر المجتمع الدولي بعد ذلك الخطوة التالية، فإن أمام العالم، ومنظماته الدولية، وقواه الحية، والقوى العظمى الرابضة فوق كومة من أشلاء العالم التي لا حول لها ولا قوة، خيار الانطلاق من جذر المشكلة، وحلها وفقاً لقرارات الشرعية الدولية.
فلا يكفي أن يلوك البعض مصطلح حل الدولتين وكأنه حل خرافي مجهول الأبعاد، ومفرغ من الزمن، ليبدو وكأنه مؤجل إلى ذلك الحين الذي يسمح به الاحتلال، بل لا بد من فرضه كحل لإنهاء الحرب، ومعه تصفية أسباب العنف والصراع، وإكساب مفهوم "اليوم التالي" بعداً واقعياً لا مراوغاً، ومعنى منهجياً يعيد للقوة مضمونها الإنساني المرادف للسلام واحترام حريته وحقوقه وكرامته.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك