ظلت القبيلة لمرحلة تاريخية من الزمن هي الوعاء الاجتماعي والنظام السياسي، الذي تحت لوائه تجتمع الجماعات والأفراد المنتمون إليه ويتقيدون بضوابطه وقواعد العلاقة فيما بينهم ومع محيطاتهم القبلية والعشائرية من خلال مجموعة من الضوابط غير المكتوبة والمسماة بـ"الاعراف والعادات والتقاليد" الراسخة كرسوخ القانون في المجتمعات المتحضرة.
وقد عمَّرت بعض الجماعات والتجمعات القبلية والعشائرية لمئات وآلاف السنين باعتبارها الحالة المجتمعية الضرورية التي لا بديل لها للتعبير عمن ينتمي أو يلجأ إليها لسبب أو لآخر.
لكن هذا المستوى من التجمع البشري لم يكن ممكناً أن يستمر إلى الأبد، حيث برزت بمرور الزمن وفي سياق التحولات الاجتماعية والمعيشية والثقافية، مجموعة من المعطيات الاقتصادية والاجتماعية التي فرضت علاقات جديدة تختلف جذرياً عن علاقات أفراد القبيلة ببعضهم.
ومن هذه التطورات نشوء التجمعات الوظيفية المتعددة كعمال الصناعات والعمال الزراعيين وعمال الخدمات والموظفين وغيرها من التجمعات التي تؤلف فيما بينها علاقات معيشية ومهنية مدنية ومصالح مادية ومعنوية أهم من المصالح القبلية القائمة على الانتماء العرقي أو الجغرافي أو علاقات الدم والقربى.
ويطول الحديث في المسار التاريخي الذي أدى إلى تراجع دور القبيلة والعشيرة ونشوء الدولة، سواءٌ بشكلها الجنيني المبكِّر أو بشكلها المدني المؤسسي الحديث، لكن من المهم الإشارة إلى أن الدولة لم تقم من خلال الانقلاب على القبيلة أو إزاحتها بالقوة، بل إن العديد من الدول ومنها دول متحضرة نسبياً قد تعايشت فيها الدولة مع القبيلة واستعانت الدولة فيها بالقبيلة في سبيل تثبيت النظام والقانون.
لكن علاقة التوازن بين هذين الشكلين ظلت مرهونة بمدى قدرة أحدهما على التفوق على الآخر، فحيثما أبرزت الدولة أفضلياتها ومزاياها الجديدة التي لم تتوفر لدى القبيلة كانت الأخيرة تتراجع عن دورها طوعاً أو كرهاً.
وحيثما عجزت الدولة أو رغب قادتها في الاستكانة والتخلي عن أدوارها كانت القبيلة تستأسد وتستحوذ على وظائف الدولة دونما حاجة إلى المواجهة معها.
بيد أن أهم ما في الأمر هنا هو أن مكانة وسلطة الدولة نشأت وترسخت على أنقاض مكانة وسلطة القبيلة والعشيرة، وكلَّما تطوَّرت الدولة وترسَّخ حضورها واتَّسع نفوذها كلَّما تراجعت القبيلة وتقلص حضورها ونفوذها وذلك هو المسار العام للتطور الاجتماعي في هذه الثنائية المعقدة.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا لا يعني أن العلاقة بين القبيلة والدولة علاقة عدائية بمعناها التناحري، لكن القبيلة كظاهرة تاريخية وكعلاقات اجتماعية لا يمكن أن تستسلم بسهولة لمؤسسة الدولة وقوانينها ونظمها التي تتناقض في الغالب الأعم مع قوانين وضوابط عمل القبيلة والأهم من هذا مع مصالح قادة القبيلة وزعمائها.
والقبيلة لا تتعايش مع الدولة إلا عندما تقبل (القبيلة) بسلطة الدولة وتخضع لقوانينها وتكون جزءًا منها وليس فوقها أو بمواجهتها أو بموازاتها.
* * *
وبعيداً عن التنظير الفلسفي والسوسيولوجي لثنائية الدولة والقبيلة، وبالعودة إلى حالتنا الواقعية على الصعيد الجنوبي، لا بد من الإقرار بالحقائق والمعطيات التاريخية التالية:
1. إن القبيلة كمرحلة تاريخية من تطور مجتمعنا الجنوبي، مثل كل مجتمع قد ظلَّت حالة ملازمة لتاريخ الجنوب حتى مرحلة متأخرة من ستينيات القرن الماضي، أما في زمن الاستعمار البريطاني الذي قام بإدخال بعض القيم والمعايير (الحضارية) الاستعمارية المتناسبة مع احتياجاته ومصالحه الاستراتيجية والاقتصادية، فقد ظلت القبيلة متجسدة في الوحدات القبلية التي تعامل معها النظام الاستعماري، سواءٌ من خلال معاهدات الحماية أو عبر اتفاقيات (الصداقة) والانتداب والاستثمار المختلفة.
فالوحدات الإدارية التي دخلت في إطار اتحاد الجنوب العربي، أو لم تدخل، قد كانت عبارة عن وحدات قبلية تحت مسمى السلطنات والمشيخات والإمارات باعتبارها حالة واقعية غير قابلة للتجاوز أو القفز عليها.
2. من المهم أن نتذكر أنه حتى تلك التمردات والمواجهات التي شهدتها بعض المناطق الجنوبية قد أخذت عناوين قبلية.
ويذكر المؤرخون العديد من الانتفاضات والمعارك والمواجهات المسلحة بين القوات الاستعمارية وبين بعض المناطق، أمثال انتفاضة سيبان والمناهيل بحضرموت، انتفاضة أبناء بيحان والربيزي في العوالق وأبناء يافع بقيادة السلطان محمد بن عيدروس، وانتفاضة أبناء الصبيحة، ومقاومة أبناء الأزارق في الضالع بقيادة الشيخ محمد عواس. وتمرد السلطان علي عبد الكريم سلطان العبادل على الاتفاقية المقترحة من قبل السلطات البريطانية، وانتفاضات بعض القبائل في المحافظات المعروفة اليوم بأبين وشبوة والمهرة وحضرموت، ما يؤكد أن حضور القبيلة في ظل الاستعمار البريطاني لم يقتصر على تلك العلاقات الرسمية التي صممها المستعمر ومهندسوه ومستشاروه على مجرد الاتفاقيات الموقعة مع بعض القادة القبليين.
3. إنه وبنهاية العام 1967م وتحقيق الاستقلال الوطني وإعلان جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية فقدت القبيلة بعضاً من حضورها السياسي والاجتماعي وتواصل تَقَلُّصُ دورها ومكانتها بقيام المؤسسات الرسمية والمجتمعية التي صارت تعبر عن جميع المنتميين إليها، سواء من خلال قيام المنظمات النقابية والاجتماعية المختلفة (النقابات، الاتحادات، الجمعيات، والهيئات التعاونية والإنسانية) أو من خلال توسيع حضور مؤسسات الدولة من سلطات تنفيذية محلية ومحاكم ومراكز شرطة وقيادات سياسية ومؤسسات وهيئات تنفيذية وخدمية وشعبية مساندة لمؤسسات الدولة، وما رافق ذلك من أصدار القرارات والقوانين والنصوص الدستورية التي صارت تنطبق على جميع المواطنين الجنوبيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الجهوية والقبلية والعشائرية أو مستوياتهم التعليمية والوظيفة والاجتماعية، وهو ما أدى أوتوماتيكيا إلى فقدان القبيلة مساحة واسعة من نفوذها وسلطاتها الاجتماعية والسياسية بطبيعة الحال.
وبالعكس فقد دفع ذلك الكثيرين من الوجهاء والقادة القبليين إلى الانخراط في المؤسسات والمنظمات المجتمعية الجديدة التي تعبر عن قيم ومقومات المجتمع الجديد.
ولا يمكن إنكار بعض الشطحات غير الواقعية التي تم اتباعها مع بعض الزعماء القبليين ذوي النزعة الوطنية من قبل النظام الوليد، لكنني ما زلت أتذكر ذلك الزمن الذي كان فيه الكثير من الوجهاء وقادة القبائل والعشائر يتدافعون جماعياً للانخراط في صفوف المراكز الثقافية واللجان الشعبية والفلاحية، وانخرط بعضهم في صفوف الجبهة القومية والحزب الاشتراكي لاحقاً، ولعب الكثير منهم أدواراً وطنيةً لا يمكن الاستهانة بها في العمل الاجتماعي والوطني، السياسي والأمني والدفاعي، وصار منهم القادة السياسيون والاجتماعيون والعسكريون والأمنيون، والتحق أبناء الكثير من القادة القبليين في المدارس الحكومية ومدارس أبناء البدو الرُحَّل ثم في الجامعات في الداخل والخارج وتخرج منهم الأطباء والمهندسون والقادة الحقوقيون والعسكريون ورجال الدولة من مختلف المستويات.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك