في العام 1981 كان خيالي جامحًا… وكان الزمن كبيرًا بدليل رموزه الكبيرة التي كانت تتعارك أدبيًا، وعلى صعيد المعارك الأدبية كالفيلة.
كان البردوني في تلك المرحلة متهمًا بالوقوف ضد التجديد والحداثة، ومن تابع تلك المعارك الرائعة يتذكر عنوان مجلة المغتربين “الوطن” التي ظهرت ذات عدد بمانشيت “الأدباء يستحقون الجلد”…
من اختار المانشيت الرئيسي أستاذنا فتحي الملا من مصر الشقيقة، والذي قضى جزءًا من عمره في صنعاء يطبع المجلات ويخرجها ويحررها، الأمين العام للجمعية العربية للحضارة والفنون الإسلامية.
وقد عرفت ذلك من صورة ظهرت في صفحة الدكتور غيلان محمد غيلان، فاتصلت به طالباً رقم فتحي، وما إن اتصلت به، رد علي باللهجة المصرية الأجمل “إزيك يا عُبَد” “يا راجل متيجي مصر نشوفك”.
ذلك المانشيت يومها جعل كثيرا من أرباب الكلمة يثورون ويوجهون سهامهم النقدية نحو البردوني، البحر الذي لا تؤثر فيه العواصف…
كنا نحن الذين تتفتح آذانهم على تلك الأيام نلتقط كل ما نسمع ونعكسه على نتاجنا الصحفي…
اقترحت على إبراهيم المقحفي –مدير التحرير لصحيفة الثورة يومها– أن أحرر إلى جانب عملي –سكرتير تحرير الصحيفة– الصفحة الأخيرة من ملحق “الثورة الثقافي”، وكنت قد أشرفت قبل الملحق على صفحتين كل أسبوع “ثقافة – أدب – فن”، اقترحت عليه أن تكون الأخيرة غير الصفحات “تسليط الضوء على ما هو شخصي وإنساني وذاتي للأديب والمثقف”…
أُجريت أول حوار مع الرجل العظيم…
سألته من وحي ما كان يدور: ارتداؤك للملابس التقليدية، فأنت تقف ضد كل جديد…
أجاب: يا بجاش الوطن يستوطن الذاكرة ولا يسكن القميص، وإلا لكانت نجوى فؤاد أعظم من البردوني…
قلت وقد جلست أمام مطابع الثورة في الدكاكين في شارع القيادة يومها: الله… وإلى اللحظة وأنا أردد ذلك الجواب العظيم…
سؤال آخر، حيرني جوابه، هكذا رد: هذا سؤال مخبرين!! حتى عرفت السبب…
ليلا وبعد أن استلمت الإجابات من حويس -رحمه الله، ودفعت بها إلى المطبعة، فجأة جاء “الزنقلة”: أينو بجاش؟
كنت عند أحمد عبد العزيز البنا الذي تحمل مرحلة مهمة من مراحل تطور صحيفة الثورة فنيًا، كان لا يزال يخرج الصفحات بأحرف الرصاص، يأتي إبراهيم فلا يعجبه الإخراج ويطلب من البنا تغيير الصفحة كلية، لا يعترض أحمد عبد العزيز أبدًا، بل تراه يبتسم ويعيد الإخراج على ضوء “ماكت” سريع يعده محمد عبد الماجد صفحات الملحق بالذات، تأثرت رؤيته بالرصاص، وعندما تم تحديث قسم الجمع والمطابع، كانت إحدى نتائج التحديث أن يتوقف البنا وأمثاله، ويتحول إلى مراسل يأتي بالأوراق ويعود بها، حتى توفي منسيًا بصمت…
قال الزنقلة وهو سائق البردوني، بل وصديقه المقرب: هات الورق التي سلمها لك عبد الله حويس… استغربت أمام الحاحه: غدوة عتدري…
تلك الليلة ذهب المساح حسب المعتاد الأسبوعي إلى البردوني، ظهر من باب الديوان والأستاذ الكبير يضحك بصوت عال، بطريقة المساح عندما كان يتكلم معه: هيا مال أبوك تضحك…
ارتفعت وتيرة الضحك ليردد: وريت أبوه المخبر، حقك البجاش…
صرخ المساح: أنت مو تعمل، بجاش صاحبي مش اللي في بالك…
جن جنون البردوني: يا شاطبي، يا زنقلة، بسرعة الحقوا حويس وهاتوا أوراق بجاش…
عرفت ذلك مساء اليوم الثاني عندما أعيدت الي الإجابات، وعدت أتصفحها من جديد والمساح واقف بيننا: شفت كان الرجال يحسبك المخبر وذكر اسما فيه “بجاش”…
ذلك الرجل البردوني كان كثيرا، بل وغزيراً جدا حتى في علاقته الإنسانية، عندما ذهبت إليه بالملحق اعتذر بشدة وهو يضحك: ظننتك الكلب ابن الكلب، لكن أنقذني اليهودي، هكذا كان يداعب المساح…
ذات لحظة في صباح مفعم بالبردوني، شفته أمام مكتبة أبو ذر الغفاري، كان والزنقلة يسلمون المكتبة حصتها من ديوان صدر له، كان للتو عائداً من دمشق، وفي دمشق، كان يرفض النزول في أي فندق تخصصه الحكومة السورية والسفارة اليمنية، كان يذهب إلى شقة أحمد شرف سعيد الحكيمي وكان طالبًا يومها في سوريا…
اقتربت منه محييًا: صباح الخير
قبض على يدي سريعًا: أين اليهودي؟
قلت: في البلاد
عندما يأتي تعالوا سويًّا…
اقتربت من أذنه وهمست: يا أستاذ عبدالله، أنت المبصر الوحيد في هذه البلاد..
انفجر كعادته يضحك، ترك يدي، ظلت الضحكة المجلجلة تلحقني حتى غبت بين السيارات… والزحام.
نهاية الأسبوع رحل…
*نقلا عن موقع (النداء)