لم تنل الإحاطة الأخيرة التي قدّمها المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ إلى مجلس الأمن الدولي عن التطورات في الملف اليمني حقها من الاهتمام والتحليل، حيث هيمنت تداعيات دخول التصنيف الأميركي لجماعة الحوثي كـ“جماعة إرهاب دولية” حيز التنفيذ على جل المداولات والنقاشات.
على أن إحاطة غروندبرغ الذي صادف تقديمها هذه المرة في يوم “عيد الحب” لم تذهب بعيدا عن مدارات المخاوف من تداعيات التصنيف، وانبرت فقرات عديدة للتعبير عن منسوب عال من “قلق” مبعوث أكبر مؤسسة دولية من “التعقيدات المحتملة” التي تُهدد “الفضاء السياسي” و”قنوات التواصل المفتوحة”، والمقصود هنا مع الجماعة الحوثية.
يبني غروندبرغ أطروحته هنا على مصفوفة من الادعاءات التي يُعدّها اختراقات من النجاح غير المسبوق بما يستدعي أعلى درجات التكاتف من المجتمع الدولي لحمايتها وتعزيزها: “التزام أطراف الصراع بوقف إطلاق النار على مستوى البلاد، اتخاذ تدابير لتحسين الظروف المعيشية، واستئناف عملية سياسية يمنية – يمنية”.
ومع أن الواقع يأتي على النقيض تماما من “النجاحات الباهرة” التي يتم الترويج لها دوليا، فالحوثي لم يهرب إلى استراحة من القتال الشامل والمفتوح (والتي يتم توصيفها في الخطابات الأممية بـ“الهدنة”) إلا بعد تكبده خسائر كبيرة ودون تحقيق أي نتائج، وليس بناء على اقتناعه بمسار سلام حقيقي، لكن استفزازات نيرانه ما زالت مستمرة في كل الجبهات، ولا يمر أسبوع دون سقوط ضحايا.
الوضع الاقتصادي والمعيشي كان منذ الحرب سيئا وازداد سوءا بعد استهداف الحوثي لمواقع تصدير النفط في نهاية العام 2022 لمرة واحدة، أدى إلى قيام الحكومة السابقة بقرار مفاجئ وغير مفهوم بتوقيف تصدير النفط. وعلى الرغم من الزيارات المكوكية التي يقوم بها المبعوث الأممي منذ ذلك التاريخ في سبيل “جهود السلام”، إلا أنه لم يفلح إلى الآن في “إلزام” الأطراف برفع قرار وقف التصدير نظرا للنتائج الإنسانية والاقتصادية الكبيرة المترتبة على خطوة بسيطة وسهلة كهذه.
المرتكز الثالث الذي تقوم عليه مرافعة المبعوث الأممي لجهوده الناجحة هو زعمه بقبول جميع الأطراف الدخول في مفاوضات سياسية “يمنية – يمنية”. ومع أن الحوثي يتعامل مع مثل هذه الأفكار في خطابه الرسمي بنوع من السخرية والتهكم، فهؤلاء الخصوم الذين قام بطردهم بالقوة المسلحة من صنعاء بعد ماراثونات “حوار وطني” استمر لعامين (2012 – 2014) وبرعاية دولية مشددة، ثم تحولوا في نظره إلى مجموعة من “المرتزقة والعملاء” الخالصين بعد هروبهم، ليسوا أهلا للدخول معهم في أي نوع من المفاوضات أو الحوارات الجدية، وهو معني فقط بالتفاوض مباشرة مع من يصفه بـ“الكفيل” تحت شرط وحيد: تسليمه مفاتيح اليمن. ولهذا كان يمارس لعبة إدارة العبث في كل المحطات التفاوضية التي جمعته بمناوئيه اليمنيين منذ قيام الحرب، ولم يلتزم بأي اتفاقيات تم التوقيع عليها.
ما يُلاحظ هنا، وعلى نحو دائم ومستفز، هو لجوء خطابات المبعوث الأممي إلى “تعميم السوء” عند الحديث عن العقبات التي تعترض مساعيه في الملف اليمني، عوضا عن التوجه مباشرة إلى الطرف الوحيد المتعنت بفداحة لكل المبادرات والمقترحات المُقدمة على أطباق ملكية لإقناعه بالدخول ولو شكليا تحت “زفة السلام” الأممية المغرية، والمتمثل في الطرف الحوثي، على عكس “الحكومة الشرعية” التي استكانت واستسلمت منذ زمن بعيد.
لقد أدى هذا التلاعب في التوصيف طيلة السنوات الماضية إلى تمييع جوهر الأزمة الإنسانية في اليمن والتستر على الطرف الجاني الذي تسبب بحدوث أكبر أزمة في العصر الحديث –وفقا لتقارير الأمم المتحدة نفسها– وتحميلها أطرافا أخرى، فضلا عن دخول مستثمرين إقليميين ودوليين سيئين على خط هذه الأزمة. ومؤخرا نشّط هذا التستر المتواصل خلايا الجنون الحوثية للدخول في مغامرة خطرة بالبحر الأحمر قد تفتح المجال اليمني على دوامة من المشاكل والأزمات لا تنتهي، وستجر تداعيات إنسانية مهولة على اليمنيين.
وفي اللحظة التي كان ينتظر فيها اليمنيون خطابا جادا وصارما مع الحوثيين، كانت الإشارة الوحيدة في إحاطة المبعوث الأممي التي تضمنت مخاوف من سلوك أي طرف محلي مصوّبة تجاه الأطراف المناوئة للحوثيين، وتحذيرها من استغلال تصنيف الحوثي كـ“جماعة إرهابية” في التفكير بالذهاب إلى تحشيد الجبهات. يبدو الأمر مثيرا للعجب والسخرية، فـ“التحشيد” ما زال في علم الافتراض، لكن وككل مرة، تتم لعبة المراوغة بخفة وسهولة بالهروب من إدانة الجرائم والانتهاكات الصريحة للحوثيين للتنديد بما لم يحدث بعد!
على الدوام، بدت المقاربة الأممية للأزمة اليمنية كأحول، ومن الطبيعي أن تتناقض، وعلى نحو فادح، مع النظريات والتجارب التي تتم الاستفادة منها عادة في حل النزاعات السياسية: كـ“نموذج المأزق الضار”، “نموذج الكارثة”، “نموذج المصيدة”.. إلخ، وكلها تدور حول مضمون واحد؛ الاستفادة من كل الظروف والفرص لإجبار الطرف المُثير للنزاع على الالتزام والخضوع لشروط حل يتم فيها كبح كل أسباب ومسببات النزاع. على أن ما يجري مع الحوثي مختلف تماما، يحظى بعناية فائقة من التدليع، وعلى إثر ذلك ينتقل كل مرة إلى مرتبة أعلى، ليتسنى له ممارسة أدوار أكثر كارثية.
قد يكون هنالك بعد آخر في القصة، بعد شخصي، فالمبعوث الحالي ربما لا يريد أن يدخل في مغامرة خطرة كتلك التي مرّ بها المبعوث السابق مارتن غريفيث. فبعدما أظهر الأخير قليلا من الجرأة تجاه الحوثيين بعد عدم أخذ جهوده على محمل الجد، مع أنهم حظوا أيضا طوال فترته بكل أنواع التدليع، لكن خشيته على مستقبله الوظيفي في المؤسسات الدولية بسبب احتمال الفشل في هذا الملف كانت سببا وراء هذه الجرأة الخافتة، فكان رد الحوثيين عنيفا بالامتناع عن مقابلته لعام كامل، فاضطر في نهاية المطاف إلى تقديم استقالته.
- نقلا عن صحيفة العرب