ما تزال جدلية ثبات سعر الصرف الوهمي في المناطق التي تديرها جماعة الحوثي محل اهتمام شرائح واسعة من السكان، منذ عملية الانقسام النقدي والمصرفي، وأخذها بالاتساع بين المحافظات الواقعة ضمن سيطرة الحكومة اليمنية، وتلك المناطق الواقعة ضمن خارطة نفوذ الحوثيين.
يزداد هذا الجدل بين أوساط الكثيرين، في ظل اتساع الفجوة في أسعار الصرف، بين الطبعة الجديدة من العملة والطبعة القديمة، وهو ما ينظر إليه البعض على أنه إنجاز اقتصادي للحوثيين!
فهل حقاً يُشكّل هذا الاستقرار -بنظر البعض- ثباتا حقيقيا لسعر الصرف، أم أن الموضوع عبارة عن بالونة منفوخة، لا تعبّر بالضرورة عن وجود عوامل وإجراءات حقيقية تتعلق بإصلاحات جادة في الجانب النقدي والمالي.
للوقوف بشكل واضح وشفاف على هذا التفاوت في أسعار الصرف، لا بأس أن نقف عند هذه النقاط بطرق عملية ومنهجية، ثم ندع الحكم للقارئ.
- عملياً تسبب الانقسام النقدي، وحظر الطبعة الجديدة من العملة في مناطق سيطرة الحوثيين، واستمرار بنك صنعاء بممارسة مهامه كبنك مركزي، من خلال إصدار القرارات المصرفية، والتدخل في عمل البنوك والمصارف، في صنعاء وبقية المحافظات الخاضعة لسيطرة الحوثيين، بتكدّس السيولة من الطبعة الجديدة في العاصمة عدن، وبقية المناطق التي تديرها الحكومة، مقابل شحة شديدة من السيولة المحلية، والريال القديم في أسواق الصرف لدى الحوثيين، وهو ما لا يساعد في وجود أي عملية مضاربة بالعملة، ناهيك عن أزمة النقد الأجنبي الحادة، التي تعاني منها الأسواق المصرفية في صنعاء والمناطق المجاورة.
- اعتماد مركزي صنعاء نظاما مصرفيا آخر، مختلفا عن النظام المعتمد لدى الحكومة اليمنية، وهو النظام الثابت، بموجب هذا الأمر يتم التدخل بكافة الأنشطة المصرفية، ولا يتم السماح لقوى السوق بتحديد سعر الصرف، كما هو عادة الأسواق المصرفية، التي ينادي بها صندوق النقد الدولي.
تنتهج الحكومة نظاماً مصرفياً آخر، وهو نظام التعويم الحر، وتم اعتماد هذا النظام في أغسطس من العام 2017م، بناءً على توصيات صندوق النقد الدولي، وتم الالتزام للصندوق بالعمل وفق هذه الآلية، التي تمنح قوى السوق وآلية العرض والطلب التحكم بسعر الصرف.
- حرص الحكومة على العمل بهذا النظام المصرفي سمح بتركيز عملية المضاربة والطلب على النقد الأجنبي في العاصمة عدن، والمحافظات المحررة، نتيجة وجود كميات كبيرة من العملة المحلية، والسماح أيضا ببيع النقد الأجنبي وفق اقتصاد السوق الحر، وبدون قيود، الأمر الذي شجّع البنوك والمصارف والشركات التجارية في مناطق الحوثيين على الطلب على العملة الصعبة اللازمة للاستيراد من السوق المصرفية في مناطق الحكومة، بمعنى أن السوق المصرفية في المحافظات المحررة توفّر عملية النقد الأجنبي اللازم للاستيراد لمختلف مناطق الجمهورية اليمنية، في حين أن الحوثيين نقلوا كافة الأعباء المالية اللازمة للاستيراد، وتمويل واردات الغذاء والسلع الأساسية والضرورية والمشتقات النفطية والدواء، والكماليات، على القطاع المصرفي الذي يعمل في المناطق المحررة.
- وقبل هذا كله، كان خروج الجزء الأكبر من السيولة المحلية إلى القطاع المصرفي غير الرسمي، منذ بدء الحرب، نتيجة ما تعرّضت له البنوك من خسائر كبيرة في الأصول والأرصدة، واستثمارات أذون الخزانة والسندات، عاملاً مهماً في زيادة عملية المضاربة بالسوق السوداء، وزيادة الطلب على النقد الأجنبي، من أجل زيادة الأرباح وتحقيق الثراء السريع.
- من خلال عمل نظرة شاملة لأسعار السلع والمواد الغذائية، في مختلف المحافظات اليمنية، ومعرفة الفروقات في الأسعار، نلحظ عدم وجود فوارق فعلية، بل على العكس، نجد أن المستوى العام للأسعار في الأسواق التموينية بمناطق الحوثيين، أعلى منها لدى الحكومة اليمنية، وهذا الأمر يُفسّر اعتماد آلية الاستيراد على سعر محدد للصرف، وهو سعر الدولار في مناطق الحكومة، بمعنى أن الشركات التجارية والمستوردين، وكبار التُجار يستوردون بسعر الدولار المحدد في العاصمة عدن، كونهم يحصلون على النقد الأجنبي اللازم للاستيراد من السوق المصرفية لدى مناطق الحكومة.
من خلال هذه اللمحة السريعة، تتضح حقيقة الفوارق في سعر الصرف، وتتكشف أكذوبة ثبات سعر الصرف لدى الحوثيين، وهو ما يؤكد أن اعتماد سعر أقل للدولار والريال السعودي، لدى القطاع المصرفي الواقع ضمن نطاق سيطرة الحوثيين، ليس سوى عبارة عن نهب منظم لمدخرات المواطنين، من العملة الصعبة، كونه يتم مصارفتها بما يقابلها من الريال اليمني، بسعر أقل من سعرها الحقيقي، الذي تحدده النظم والقواعد الاقتصادية، للسوق الحر، في حين أن تكاليف المعيشة والخدمات وأسعار السلع والغذاء تزداد حدتها باستمرار، والتضخم يكاد يقضي على ما تبقى من قدرة شرائية ضئيلة للمواطنين.
من صفحة الكاتب على إكس