د. ثابت الأحمدي
طارق والمخا.. إعادة الاعتبار للمكان
تكتسب بعض الأمكنة هيبتها من عظمة مؤسسيها، كما قد يكتسب بعض الأشخاص قيمتهم من قيمة المكان نفسه، نظرا لعراقته التاريخية أو لأي اعتبار آخر، وشواهد التاريخ أكثر من أن نحصيها..
المخا في اليمن ــوبالأصح "مخا"ــ ليس مجرد اسم لبقعة جغرافية على سِيف البحر الأحمر؛ بل تاريخ وجد قبل التاريخ ذاته. على ثرى تربته عبرت أجناس وقوميات وتلاقت أديان ومذاهب، وتعارفت حضارات وأمم، أما إذا عدنا إلى التوراة فسنجد نبيا يحمل اسم "مخا/ ميخا"، كما سنجد إشارات لأماكن أخرى، مثل: "عدن" و"قنا/ كنة" اللتين ذُكرتا أيضا في التوراة، إلى جانب مناطق يمنية أخرى.
وفي نصوص المسند المخا/ مخن، ميناء قديم يرجع تاريخه إلى ما قبل الميلاد، فقد عُثر فيها على نقشٍ بالمسند، أرجعَ تاريخَه فريقٌ من العلماء إلى ما قبل الميلاد بحوالي 300 أو 250 سنة. وقد ذُكرت المخا في نقوشِ المسند أربع مرات باسم "مخون". وإنّ أقدمَ معلومةٍ عن المخا في التاريخ اليمني تعود إلى زمن "الأوسانيين" في الألف الثانية قبل الميلاد الذين اتخذوا المخا ميناءً وأبحروا منه إلى العالم، لممارسة التجارة عبر الملاحة البحرية، والعبور منه إلى إفريقيا وإلى مصر، فصار أشهر الموانئ اليمنيّة قبل شهرة ميناء عدن.
وذُكرَ اسمُ المخا أيضًا في كتابةٍ سُجلت فيها حروب الملك يوسف أسأر، المشهور بذي نواس على الأحباش ونصارى اليمن، فقد ورد فيه أنّ "يوسف أسأر" قاد جيشَه إلى "مخن"، وقاتلَ الأحباش فيها، واستولى على كنيستها، وكان هذا الملك يهوديًا، مناوئا للمسيحية الغربية التي رأى في أتباعها في اليمن خونة، فأبادهم بالحرق في قصة الأخدود الشهيرة.
في التاريخ القديم كان اللبان السلعة الاستراتيجية العالمية التي تتحارب الدول والشعوبُ من أجلها شرقا وغربا، وفي التاريخ الحديث كان البن السلعة الثانية التي اكتسبت ذات الأهمية، قبل ظهور السلعة الاستراتيجية الثالثة "البترول".
وكان ميناء المخا منطلق تجارة البن الأول إلى دول العالم الحديث؛ حيث التقى خلال هذه المرحلة الشرق مع الغرب: التقى تجار الصين والهند وفارس وشرق إفريقيا وشمالها، ودول أوروبا، وأواسط آسيا، لتبادل مختلف أنواع التجارة، وعلى رأسها البن. كان المخا ملتقى الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية الفارسية، وملتقى كل دول أوروبا وأمريكا. وفي المخا تجاورت الكنائس والمعابد والمساجد، على نحو نادر، والتقى الوثني والموحد، والبوذي والسيخي والمسلم واليهودي والمسيحي.
لقد لعب ميناء المخا دورًا رياديًا هامًا في عملية الاتصال والتواصل الحضاري بين آسيا وإفريقيا، وبين آسيا وأوروبا، من خلال البحر الأحمر، الجسر الذي عبرت عليه كل الأمم، وشكل حلقة وصل حضارية رائدة بين الشّرق والغرب، ولا يزال. ومثل ميناء المخا من وقت مبكر ما مثلته كلٌّ من: الإسكندرية، وبيزنطة، وحيفا، وقرطاج من مدن الاتصال الحضاري البحرية، إلا أن الدور الذي لعبته المخا ظل مجهولا، في الوقت الذي تيسر لتلك المدن من يكتب تاريخها. ونحن اليوم نحاول إماطة اللثام عما تيسر من هذا الدور التاريخي العظيم لهذا الميناء.
تذكرُ المصَادرُ أنّ اليونانيين والرومانيين كانت لهم جاليات سكنت فيه، وأن البطالمة المصريين كانوا يُنزلون رجالهم في هذا الميناء، وبذلك فإنَّ جُلّ سكانها بحارة وتجار، وكان يتبع الميناء مدينة داخلية تحمل الاسم نفسه، وبها سوق، ويربطها بمدينة ظفار طريق بري. وفي عهد الدولة البيزنطية القادمة من مصر للتزود بالبضائع العربية، وبيع بضائع البحر المتوسط ومصر، ثم تكملُ رحلتَها إلى الهند، وميناء مخا كان الميناء المفضّل لرسو السُّفن اليونانيّة والرومانيّة. وكان قائدُ جيش الملك كرب إيل يهنعم يقوم بتحصيلِ العائدات الجمركيّة الضخمة النابعة من اكتظاظها بالسفن الأكسومية والبيزنطية، والراسية على أرصفته، والمحمّلة بالبضائع المتنوعة، كالثياب الأرجوانية والبرديات الصوفية.
وفي فترة مهمة من فترات التاريخ السياسي مثلت المخا محطة تجارية من محاط طريق الحرير الصيني البحري بعد أن أقدمت فارس على قطع خط الحرير البري خلال القرنين الخامس والسادس الميلادي، واضطربت أسواق بيزنطة، والأسواق الأوروبية بشكل عام. وعلى إثر ذلك كانت تحصينات الملك الحميري ذي نواس لميناء المخا، وكانت وصول جيوش بيزنطة والحبشة بعد ذلك إلى ذات المكان.. والقصة مبسوطة بتفاصيلها في كتابنا "صفحات من تاريخ اليمن في المخا"، قد يرى النور قريبا.
وتواصل الاتصال الحضاري بين الشرق والغرب في العصر الحديث عبر المخا، مع البرتغاليين أولا، كما يحدثنا عن ذلك كتاب "تاريخ اليمن المسمى طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى" لمؤلفه عبدالإله الوزير، وأيضا كتاب "تاريخ اليمن عصر الاستقلال عن الحكم العثماني الأول" لمؤلفه حسام الدين محسن بن الحسن بن القاسم، وكذلك مع العثمانيين، ثم الهولنديين، كما تحكي الوثائق الهولندية التي جمعها الباحث "براور" في كتابه اليمن في أوائل القرن السابع عشر مقتطفات من الوثائق الهولندية المتعلقة بالتاريخ الاقتصادي لجنوب الجزيرة العربية. ثم مع الفرنسيين كما فصلها المؤرخ إيرك ماكرو في كتابه اليمن والغرب، ثم البريطانيين، ثم محمد علي باشا في مصر؛ حيث أنشأ ديوانًا خاصًا بتجارة البُن، وسُمي باسم "ديوان مصلحة البن"، وجعل من "المخا" مركزًا له، وعين عليه رئيسًا، أو ناظرًا، أو مأمورًا، كما عين محافظا للمخا من لدنه، ثم الأمريكان وتأسيسهم للمركز التجاري الأمريكي في المخا سنة 1804م. هذا إضافة إلى الهنود والإيطاليين والألمان؛ بل وحتى دول أوروبية صغيرة كان لها حضور في المخا كالدنمارك وسويسرا.
طارق والمخا
منذ عقود طويلة تم إهمال هذا الميناء الاستراتيجي الكبير، وخسرت اليمن بذلك مليارات الدولارات، ولكن يبدو أنّ التعويض جارٍ اليوم، وخلال المرحلة القادمة أيضا.
منذ وصلها العميد طارق محمد عبدالله صالح ورفاقه الأحرار، يجري إعادة الاعتبار لها بقوة؛ حيث تم بناء ميناء جديد، ومطار جديد، وتم إنشاء المدن السكنية والمرافق الخدمية، فانتعشت المدينة اقتصاديا، ومثلت متنفسا كبيرا لا لأبناء تعز أو تهامة فقط؛ ولكن لكل أحرار اليمن، ومن المتوقع أن المنطقة ستشهد تطورا كبيرًا خلال المرحلة القادمة.
ولعل مهرجان "عيدنا موكا 2" الذي انطلق مساء الثلاثاء في كورنيش المخا، برعاية كريمة من عضو مجلس القيادة الرئاسي، رئيس المكتب السياسي للمقاومة الوطنية العميد طارق محمد عبدالله صالح الذي نظمته السلطة المحلية بالمخا، ممثلة بمكتب الثقافة، وبالتعاون مع دائرة الإعلام والثقافة والإرشاد بالمكتب السياسي، لعل هذه التظاهرة واحدة من ملامح هذا العهد الجديد للمخا.. الأرض والتاريخ.
إنّ هذه التظاهرة بقدر ما هي ثقافية، هي أيضا اقتصادية، وهي كذلك شعبية وفنيّة، تعيد للمكان بهاءه وللتاريخ رونقه، وللبن اليمني رائحته الزكية التي فاحت بها الأمكنة من أوروبا إلى إفريقيا إلى آسيا، كما لو أننا على شاطئ مدينة البندقية في عهدها الإمبراطوري التي مثلت شريانا تجاريا لكل مدن أوروبا بداية التاريخ الحديث.
التحية والتقدير والشكر الجزيل لرفاقنا الأحرار في السّاحل الغربي، بقيادة العميد طارق، وهم يشعلون في وجداننا جذوة الأمل، ويعيدون للتاريخ ألقه، وللمكان هيبته، وتحية خاصة للنائب الأستاذ إبراهيم المزلم، رئيس دائرة الشباب بالمكتب السياسي، وعيدنا موكا.
من صفحة الكاتب على إكس