في تعز، المدينة التي كانت يومًا منارة للفكر والحرية والتعدد، أصبح الصوت فقط لمن يتبع حزبًا ما، والخروج إلى الشارع مشروطًا ببيان حزبي أو تغريدة قيادي.
لم تعد تعز تعج بأصوات الغضب الشعبي الصادق، بل بأصوات اصطناعية، ركيكة، مفبركة، موجهة؛ تصرخ حين تُؤمر أن تصرخ، وتخرس حين يُطلب منها أن تصمت.
في تعز، لا تُرفع الأصوات من أجل الماء المقطوع، ولا من أجل الكهرباء الغائبة، ولا من أجل القمامة التي تفترش الأرصفة، ولا من أجل أسر تفترش الألم في كل حيٍّ وحارة. الناس لا يخرجون لأنهم موجوعون، بل لأن قياديًّا حزبيًّا قرر أن هناك من يجب أن يُلعن، وهناك من يجب أن يُصفق له.
مدينة تغيب فيها الدولة، وتحضر الأحزاب.. مدينة تسيرها بيانات وتصريحات وتغريدات.. مدينة يقودها صراع الولاءات، لا ولاء للوطن ولا للإنسان.
المواطن فيها مهمش، لا صوت له، لا قرار له، لا دور له، إلا أن يُستخدم كرقم في مسيرة، أو كصدى في منشور.
في تعز، إذا أردت أن تشتكي أو تطالب بحقك، سيسألونك: "مع من أنت؟" إن لم تكن مع هذا أو ذاك، فلن يُسمع لك صوت، ولن يُرفع لك مطلب، وستُتهم بأنك مندسّ أو متآمر أو غير وطني.
تعز، اليوم، لا تحكمها سلطة مدنية، بل تحكمها الأجندات.
الوجوه تتغير، لكن الخلفية واحدة: خدمة الحزب لا خدمة المواطن، الحفاظ على مصالح القيادات لا مصالح الناس، حماية الكرسي لا حماية الكرامة.
الأحزاب أصبحت أكبر من المدينة، وأكبر من معاناة الناس، وصوتها أعلى من صوت طفل يبحث عن ماء، أو امرأة تصرخ في وجه الجوع، أو أب يلهث خلف لقمة عيش.
لم يعد رب الأسرة في تعز يشعر بأنه مواطن، بل مجرد تابع أو متسول حقوقه، ينتظر موافقة حزبية على أن يُسمع أنينه.
الطرقات محفّرة، القمامة متكدسة، المياه مقطوعة، الكهرباء حلم، الأمن غائب، المدارس مدمرة، المستشفيات بلا دواء...
لكن كل ذلك لا يستحق غضبًا جماهيريًّا، لأن الحزب الفلاني لم يأمر بعد بالنزول، ولأن الحزب الآخر يفضّل الصمت الآن، ولأن الوقت غير مناسب للانتقاد، ولأن "فلان" يجب أن يُحمى من النقد، ولو كانت المدينة تحترق.
يا تعز، ما الذي تبقى فيكِ من تعز؟
كيف أصبحتِ المدينة التي علّمت اليمنيين الثورة والكرامة، رهينة قرارات قياديين لا يرون فيكِ إلا خريطة نفوذ وصناديق مالية؟
هل صارت تعز بحاجة لثورة على من يدّعي تمثيلها؟
هل بات البوح جريمة؟ وهل المطالبة بالخدمات خيانة؟ وهل الحديث عن المعاناة مهدد بوصمة الانتماء لـ"الطرف الآخر"؟!
نعم، في تعز لا صوت يعلو فوق صوت الحزب...
لكن ماذا عن صوت الجائع؟
وصوت العطشان؟
وصوت المهمّش؟
وصوت ذلك الأب الذي يقف عاجزًا أمام طفله المريض، لأنه لا يملك ثمن دواء، ولا يسمعه أحد؟
كفانا صمتًا عن قبح هذا الواقع. كفانا خنوعًا لأوامر الأحزاب.
فالوطن لا يُبنى بتصفيق عميان، بل بصوت حر يرفض القبح، ويطالب بالكرامة والخدمة والعدل.
تعز لن تنهض إلا حين تعود للإنسان، لا للحزب.
حين نعيد تعريف المواطنة بعيدًا عن الولاء السياسي.
حين نقول: "نعم للإنسان، وطُز في الحزب إن كان فوق الإنسان".