في عالم اليوم يتراجع التَّفاخر والاعتزاز بالانتماءات العُصبوية أمام الكفاءة والقُدرة والإبداع والعطاء، حتى لقد أصبح العالم يحترم كل من يقدم للإنسانية شيئاً مفيداً ويُشيد به دون أن يهتم بمعرفة أصله وفصله، ولا يسأل عن دينه وموطنه وعَشيرته! بينما نجد بعض إخوتنا مصرين على أن يبعثوا فينا عُقدة «الاصطفاء العِرقي والمذهبي» من جديد!! وكأنه لم يكفِ أمتنا ما نتج عن تلك العصبيات من عُقد اجتماعية وانحرافات فكرية وصراعات سياسية، فهل كُتب علينا أن نعود إلى مقولات: «نحن أبناء الله، وسلالة النور، وسفينة النّجاة، وتميمة حفظ الأرض من الغَرَق»[1]. ونكتفي عن الصعود في مدارج الارتقاء بالبحث عمن نتمسك به ليقودنا كالعميان؟!
في مسألة الاصطفاء يتحدث الأخ حسين الحوثي في (ملازمه) أن الله اختص الأنبياء بالرسالة وجعلهم هداة للخلق، وكذلك اختص أهل البيت بولاية الأمة. مؤكداً على أن الأمة انحرفت من بعد النبي حتى الآن بسبب تخليها عن ولاية «الأعلام» من أهل البيت[2] وأنّ ما يصيب الأمة الإسلامية اليوم من حالة ضعف وانكسار ما هو إلا بسبب أبي بكر وعمر اللذين صَرَفا الولاية عن المصطفين لها[3]. ويرى أن الصهيونية العالمية هي التي تحارب لفظ «إمام» ليتسنى لها إسقاط ما يصفه بـ«الكمال الإلهي»، حتى يسهل على غير «الأعلام» الوصول إلى السلطة[4]. وله في هذا كلام كثير، لا يستطيع أحد من أتباعه إنكاره.
وردُّنا عليه هنا سيكون في مقامين؛ أحدهما: رد تفصيلي على الحجج التي ظل يوردها خلال ملازمه، كآية الاصطفاء وحديث الثقلين ونحو ذلك. وثانيهما: الكلام عن مسألة الاصطفاء بشكل عام. وسنبدأ هنا بالثاني لكونه الإطار العام.
(أولاً): الاصطفاء.. العُقدة
ظل الحوثي يناور على البسطاء بأن الاصطفاء موجود في القرآن الذي أكد بـأن {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}، و{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}، و{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، ثم يرهبهم بالتخيير بين تصديق ما جاء في القرآن أو الكفر به، وبعد الإيمان بفكرة الاصطفاء يقوم بمنحه لمن يريد ويسلبه عمن يريد..! وأتذكر هنا أننا كنا فيما مضى نرتجف حينما نسمع أن بعض «الأعلام» يعتبر إنكار اصطفاء أهل البيت في حكم «الردّة»، لكونه إنكاراً لما عُلم من القرآن ضرورة.
وهذا مما أربك كثيراً من الدارسين، حتى من غير أنصار الحوثي فيلجأ إلى التأويل أو الإنكار، مع أننا حينما نضع الآيات - الواردة في الاصطفاء - في سياقها الموضوعي نجدها تمضي في إطار التكليف الطبيعي، وأنها خالية من شتى أشكال العنصرية النّتنة، كما سيأتي تفصيل ذلك.
ومن الأمور التي تُسقط مسألة الاصطفاء (بالكيفية التي قَدّمها الحوثي ومن يتفق معه)، ما يأتي:
❶ أن عقول الراشدين، وأديان الرسل، وتجارب الأمم، وأخلاق المجتمعات، ربطت كل تَمَيُّز الإنسان بما اكتسب من معارف وقُدرات جعلته مرهوناً بما قدّم وأخّر، وتتعامل معه عل أساس أنه كلما نجح في مهمة حاز قدراً من التَّميُّر واستحق من المكانة والتقدير ما لا يستحق سواه.. وعلى ذلك تمضي أكثر شعوب العالم اليوم، ولا تعتبر مجرد الانتماء العِرقي أو الجغرافي أو الديني موجباً للأفضلية الاجتماعية والاستحقاق السياسي، وتنظر بشفقة إلى من لا يزال مهووساً بنظرية: «أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين»، باعتبارها حالة مرضية، تحتاج إلى رِفْق في معالجتها، كما تُعالج سائر الأمراض.
❷ منطقياً لا يمكن أن ترتبط أفضلية الإنسان بمجرد الانتماء إلى العِرق أو الجغرافيا أو الدين، وكذا استحقاقه للمكانة والاختصاص بأي دور؛ لأن المنتمين إليها ليسوا على نمط واحد؛ لا في خَلق ولا خُلق ولا كفاءة.. فلا يمكن أن يكونوا جميعاً في الصّدارة بمجرد الانتماء، ولا يصح تخصيص بعضهم بمجرد الدّعوى؛ لأن ذلك ضربٌ من السذاجة والخَبَال، فلم يبق إلا أن يكون هنالك أمر آخر، كالكفاءة الذاتية والاستحقاق بالكَسب، وهو المعيار المطلوب الذي لا فكاك منه ولا قيمة لسواه، ولا يتطلب توفره أي نوع من أنواع العصبيات.
❸ بَنَى الإسلام رسالته برمتها على أساس {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وأكد في مئات الآيات على أن الخيرية والأفضلية مرتبطة بالإيمان والعمل الصالح، وحَسَم الأمر بـ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}. وأخبر بأن {لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}، وأن {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. واستنكر مزاعم بني إسرائيل بالتميز لكونهم بني إسرائيل..
▪ فرد عليهم حين قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه!}. بقوله: {بَلْ أنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.
▪ ورد عليهم حين {َقَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصَارَى!}، بقوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِله وَهُو مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُه عِندَ رَبّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
▪ ورد عليهم حين {قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النارُ إِلَّا أيَّامًا مَعْدُودَةً!}، بقوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
▪ وأكد لنا ولهم بأن التَّميز {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ.. مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}.
❹ كلام القرآن عن الاصطفاء لم يأتِ في السياق الذي أورده الحوثي وسائر مؤيدي الاصطفاء العِرقي؛ ولكنه جاء ومعه ثلاثة أمور: بيانٌ لطبيعة أي اصطفاء، وتعيينٌ لهوية المُصطفي، وتحديدٌ للمهمة التي أصطفي لها. ووضع كل ذلك في السياق العام لنظرية العدل والمساواة والتّكليف التي بُنيت عليها أديان السماء وأخلاق الأمم، ولم يترك الباب مفتوحاً لكل من هبّ ودبّ، ليرتقي في عقول الناس بنصوص يبْتُرها عن سياقها الموضوعي ليفسح لنفسه مجالاً فيها، ثم يركّبها في قصص تاريخية أنتجها الصراع الاجتماعي والجدل السياسي المُزمن.
❺ دعاوى الاصطفاء والعِلْم اللدُنِّي والعصمة والإلهام ونحوها.. هي في الأساس بضاعة الفاشلين في التحصيل العلمي، والعاجزين عن تقديم ما يُقدِّر المجتمع من عمل وإنجازات؛ لأنها تعوضهم عن حالة الفراغ والنقص التي يعيشونها، فيستعيضون عن الحقيقة بالأوهام، ويحجبون الحاضر بالغائب، ويستبدلون الشهادة بالغيب، وبهذا يعيّشون المجتمع في جدل بيزنطي على المزاعم والدَّعَاوى، التي يمكن لكل منا أن يقول فيها ما يريد كما يريد، المهم أن يجد له مجموعة من المؤيدين المتحمسين، الذين يفعلون ما يؤمرون!