أكثر ما يميز طبقة المثقفين والساسة المتعلمين في هذه البلاد هو أنهم أناس لا يفكّرون بل يعيدون تدوير واستهلاك قشور الأفكار والأحكام التي عفى عليها الزمن.
إنهم لا ينظرون في الظواهر والحوادث بقدر كبير من الحس النقدي والاستبصار والملاحظة الحية، بل يبحثون لها من مخزن التفسيرات والقراءات الجاهزة ما يوافق هوى النفس أو يطابق الموضة أو يدر المال.
في أوقات كثيرة يمكن للمرء ملاحظة كيف أن عوام الناس أكثر نفاذ بصيرة وأصالة من المثقفين، وخصوصاً ذلك الصنف من المثقفين الذين حالفهم الحظ بالحصول على تعليم راقٍ في الخارج نتيجة انحدارهم من عائلات توارثت المكانة السياسية والاجتماعية في أزمنة مختلفة، وربما سجل أفرادها في الماضي بعض الحضور في ميادين الأدب والثقافة والبحث العلمي.
هذا الصنف بالذات يحمل عن نفسه درجة مقززة من حسن الظن. لقد أعفوا عقولهم تماماً من التفكير وإمعان النظر، إضافة إلى أن حواسهم عاطلة عن الاتصال بالواقع أو معاينة تجاربه المتغيرة وتحولاته وإعادة تقييم الأمور عن كثب. إنهم في نشاطهم العام، وفي مساهماتهم النظرية والنقدية يعتمدون على "الموهبة الحزينة" لتفسير الأمور بواسطة الكليشيهات، ويعتمدون بشكل أكبر على البريق الموروث الملتصق بألقابهم.
أصبح جهد المثقف هنا ينصب بالتحديد حول إعادة تدوير وتحوير وجهات نظر بالية ومشكوك في صلاحيتها. ورغم أنها غالباً منقولة شفاهياً من ظروف تاريخية وأحوال مختلفة، إلا أنها لا تزال قيد الاستخدام. وحتى لو دحضتها الوقائع الحية والتجارب، فإنهم سينكرون الوقائع والتجارب وسيجدون من الحذلقة والتخرصات مخرجاً للحفاظ على مقتنياتهم الفاسدة والعزيزة على نفوسهم.
يقول الناقد الماركسي الإيطالي غرامشي: "كيف لنا أن ندرك الحاضر -وهو حاضر بالغ الخصوصية- إذا نحن استعنا بخط تفكير، تكوَّن في الماضي، وغالباً ما يكون قد تكوَّن في ماضٍ سحيق، عفى عليه الدهر؟".
ويضيف: "فالذي يستعين بخط تفكير كهذا لا يكون هو نفسه إلا ترسّباً "متحرّكاً" من ترسّبات الماضي، صَدَفة متحجّرة، لا تستشعر العالم الحديث؛ أو هو -على الأقل- شخص متنافر التكوين".
وأما من يقرأون الكتب منهم، فإن آفتهم هي أن لديهم إخلاصاً لا يتزعزع لكل ما تنطق به الكتب حتى لو كان محض ترهات لا تجمعها بواقع الحال رابطة.
وهم يستخدمون قياسات مغلوطة مبنية على الاستيهام والأمنيات الخفية والتحيزات البدائية الكامنة في الأعماق دون وعي والتي لم يفتتها الزمن ولا اخترقتها المعرفة بشعاع من ضوء.
يكتفون من الاستدلال برصد سطوح الأشياء. في أحسن الأحوال يشبهون طبيباً كسولاً خامل الفكر بحيث يكتفي عند التشخيص بالعرض الذي يقدمه المريض عن حالته وبضعة أسئلة. لا يذهب أبعد من ذلك. لا يكلف نفسه مشقة المعاينة والتشخيص الأعمق، وعمليات الاستكشاف والتحقق من نوع المرض بشكل دقيق وشامل قبل أن يقرر العلاج.