عبدالفتاح الصناعي

عبدالفتاح الصناعي

تابعنى على

إخفاقات سبتمبر وأكتوبر وانعكاساتهما على الوعي والوحدة الوطنية

Sunday 07 October 2018 الساعة 04:20 pm

لاتبنى الدول من فراغ فلابد من حامل اجتماعي وسياسي يتولى مبادرة ومهمة بناء الدولة سوء كان داخليا أو خارجيا وبالاختلاف عن تقييمه أكان عظيما او حقيرا، متقدما أو متخلفا، فإنه قائم على عوامل موضوعية دقيقة أدت إلى إبرازه حسب نظرية البقاء للأقوى ونظرية الانتخاب الطبيعي، وسواءً كان يعبر عن تطور طبيعي وتقدم أو تخلف وتراجع.

الحركات الوطنية والثورات والأيديولوجيات والعائلات الملكية والاستعمار أيضا، كل هؤلاء أقاموا وبنوا دولا، وبغض النظر هل كان لهم الفضل على الشعوب التي حكموها، أو كانوا مستغلين لهذه الشعوب.. فإنهم لم يحكموا إلا لمنطلقات اخلاقية وطنية أو دينية أو انسانية أو تحررية أو توسعية، جوهرية أو صورية كانت هذه القيم، وكذلك نقاط قوة مختلفة تميزوا بها عن الآخرين سبقوا بها مجتمعاتهم، وهزموا بها أعداءهم المنافسين لهم، ويظلون كذلك بين المخاطر والخيارات المحددة: فاما أن يكونوا قادرين على تجديد أنفسهم وسباق مجتمعهم وعصرهم بمختلف وأهم تطوراته أو أنهم يحملون بداخلهم عوامل فنائهم ونهايتهم بتعطيل وقتل ميزة التجدد والمراجعات وعدم إحداث القفزات الكبيرة للأمام؛ وذلك بسبب أخطاء جوهرية، والتزامات شكلية مبالغ بها، والاستقواء بجهل المجتمع وضعفه، والذي لايمكن للاثنين بأن يستمرا "السيطرة وجهل المجتمعات" مهما تزاوجا واتحدا كقانون اجتماعي مؤقت لفترة معينة.

أغلب شعوب العالم المتقدمة حضاريا اليوم خرجت من رحم صراعات كهنوتية وسلطات فاسدة. وهكذا، كان شأن الحكم الامامي في شمال اليمن الذي اتخذ من عوامل جهل الشعب وتخلفه وأمراضه الفكرية والاجتماعية المتوارثة منذ عقود وقرون عدة، أهم المنطلقات لقوته وسيطرته. لقد كان يسوق هذا النظام الامامي المتخلف لشرعيته تحت غطاء أمراض ثقافية واجتماعية بكل استغلال لرواجها واعتقاد الناس بها، كمثل أنه من نسل النبي وبأنه عالم وفقيه فهو "إمام" وهذه مرتبة ورمزية دينية كبيرة توجب كامل الطاعة والخضوع وتضييعا للعقل والمنطق والفكر، وليس أميرا أو ملكا كمنصب وشأن سياسي وسلطة دولة فقط بدون سلطة الدين.

كان اليمني "رعويا" عند سيده وجلاده "الإمام"، كواجب ديني وتعبدي مقدس وليس مواطنا عند دولة ونظام سياسي، لهذا المواطن حقوق وعليه واجبات.. وليس شرعية هذا "الإمام" لأنه يملك قدرات وامكانيات تؤهله من بناء اليمن والمحافظة على مصالحه، ولذا حافظ على جهل الشعب وتخلفه بكل ما استطاع من قوة فجعل اليمن تعيش العصر الحجري وجعل حياة اليمني أكثر تخلفا وبدائية.. في مرحلة كان العالم يعيش أوج تطوراته وحداثته، وما كان له القدرة بأن يقف أمام تقدم الحياة وتطوراتها، وثورات الوعي والفكر فخرج أعظم الثوار من أماكن ودور العلوم الدينية التقليدية التي في حقيقتها كانت تجهيلا وتخديرا للشعب وبدأ الثوار يصارعون في رؤوسهم الافكار التقليدية والخرافية التي حشاها في عقولهم من يزعمون أنفسهم بأنهم علماء، وكانت هنا بدايات تبلور وتمخض الحركة الوطنية التي سعت لمواجهة جهل الإمام وكهنوته وقدمت ثورة مكتملة الأركان والجوانب بوعيها الثقافي والاجتماعي والسياسي الأكثر رقيا.

وهكذا، فإن البداية والمنطلق السبتمبري عظيم وكبير وجليل، ولكن ما كان لهؤلاء القلة القليلة التي غيرت تفكيرها بصعوبة بالغة ورسمت الحلم الوطني أن تستطيع الصمود أمام جبروت الإمام وبطشه ولذا كانت محتاجة لنوع من الاتحاد وشبه التحالف مع أطراف أخرى مختلفة لها القدرة والقوة والجرأة على مواجهة الإمام حتى وإن كانت أهدافها ومنطلقاتها مختلفة عن فكر الحركة الوطنية وقد كانت هذه القوى بداية قبائل ورموز اجتماعية ومؤخرا قيادات عسكرية كانت مقربة من الإمام.

كانت هذه القبائل برموزها تصارع الإمام من باب التنافس الاجتماعي والسياسي والمزايا والخصائص للسيطرة وتقاسم الغنائم وحدث أن توغلت هذه القبيلة بالثورة او بالحركة الوطنية الى حد بأنها أثرت وغيرت بالمفاهيم الوطنية والثورية كفكر وواقع بشكل جوهري، في حين كان الامل عند قادة الحركة الوطنية بأن استيعابهم لهذه الحالة القبيلة المتخلفة ورموزها، كأمر اضطراري، سوف يسهم تدريجيا في تطوير وعيها والارتقاء بمنطلقاتها ومعالجة تخلفها لكن الذي حدث كان هو العكس تماما.

لم يكن يتوقع مؤسسو الحركة الوطنية بأن القبيلة ممثلة ببعض رموزها الواضحة وكذلك قيادات عسكرية كانت مقربة من الإمام، غير قادرين على تغيير تفكيرهم الذي يفسر الثورة بأنها صراع مزايا اجتماعية ومكاسب سياسية بل سيصبح خطابا رسميا للثورة وقيمها المحرفة والمبدلة وبأنه سيتم انهاء وقتل كل القيم الجوهرية والروح الحقيقية للثورة وإجهاض ووأد كل محاولات التصحيح والإصلاح بإحياء قيم الثورة الحقيقية، وإعاقة وإفشال تحقيق أهدافها ببناء دولة حديثة بمؤسساتها وقانونها لصالح نافذين بالدولة والمجتمع.

ورغم جذور الثورة التي كانت ما زالت مشتعلة، التي واجهت الأخطاء والانحرافات بعهدي السلال والإرياني، حتى أرغمتهما على ترك الرئاسة والخروج من البلد فإن هذين الرئسين كانا قد مكنا أكثر للقبيلة التي تريد أن تضع نفسها بمكان ومكانة أسرة الإمام.

ومن هنا كانت معركة الحمدي أكثر تعقيدا وخطرا في مواجهة القبيلة التي كانت قد بسطت نفوذها بالدولة وكان ثمن مواجهتها وإعادة قيم الثورة الحقيقية وبناء الدولة هي حياته.

وبمقتل الحمدي سيطرت القبيلة على الثورة والدولة وأرعبت أي رئيس بعد الحمدي بأن مصيره كذلك إذا لم يتحالف معها ويسمح بسيطرتها ونفوذها، وهكذا تعامل صالح معها، وتحالفا لمواجهة أعداء مشتركين.. وأخيرا تصارعا وفق مراحل متدرجة.

أصبح الخطاب الثوري لايستند الى قيم حقيقية وانما مزايدات وقيم محرفة وثورة تم إفراغها من محتواها وكانت سلطة القبيلة والمشائخ فوق سلطة الدولة.

عمل صالح على الهروب من ضغط القبيلة عليه بالهروب نحو الوحدة، بنفس الوقت الذي أراد علي سالم الهروب من الفراغ والصراع الحزبي إلى الوحدة.

فبعد مقتل سالمين والحمدي كانت النهاية الأخيرة لما تبقى من روح سبتمبر واكتوبر، وكانا في طور خططهما لتحقيق الوحدة الوطنية وكانت سوف تمثل ولادة وطنية حقيقية ونتاجا اخلاقيا وقيميا طبيعا لثورتي سبتمبر واكتوبر، فبمقتلهما اهتزت الشخصية الوطنية في الشمال والجنوب، وأدارت السياسة صراعاتها في متاهات لانهاية لها.

قتل سالمين التطرف الأيديولوجي الذي انهى قيم اكتوبر واهدافها في التحرر والاستقلال الذي عمل سالمين على تجسيده، لكن الأيدلوجية في الجنوب مثلت مسار الانحراف الثوري والوطني، كما قادت القبيلة الانحراف بالشمال، ولقد انتجتا تجربتين مختلفتين ومتناقضتين، فبالشمال كانت سلطة القبيلة فوق الدولة ووضع اعراف القبيلة فوق القانون.. كما تطرفت الأيديولوجية الماركسية لاجتثاث القبيلة وتجاوز اعرافها وعاداتها الطبيعية.

وفي هذا المجتمع الذي يعج بالتناقضات الاجتماعية والسياسية والثقافية بين مليشيات دينية ويسارية، كان الاتفاق على الوحدة ليس إلا تأسيسا لكارثة قادمة فالبنية السياسية والاجتماعية التي تعاني من الاضطراب ليست مؤهلة لأي وحدة وإنما خلق تأزمات وثأرات جديدة.

إن التآمر على الحمدي وسالمين مثل قتل الشخصية الوطنية الطبيعية والأحلام السبتمبرية والأكتوبرية، ووأد مسبق للوحدة الوطنية، وبقت القبيلة بجانبها المتخلف والأيديولوجية اليسارية والدينية بتطرفها المدمر وعمالاتها العابرة للحدود، وتفكيرها المتجاوز واقعها وبيئتها، يعبثان بالواقع الوطني بكل صراعتهم وتحالفاتهم وتناقضاتهم.

الجسد اليمني مثخن بالصراعات الاجتماعية والسياسية المتراكمة ولن يحتمل المزيد.. ونحن أمام خيار إعادة هذه الصراعات بطرق جديدة أو إحداث مراجعات جذرية وخلق طريقة تفكير سياسي جديدة تعي تجارب الأمس واخفاقاتها وتنطلق نحو آفاق جديدة بعيدا عن تجريب المجرب والتمسك بالمنطلقات الخاطئة.