حكيم الجبلي
هل اليمن حقّاً -بدون التحالف السعودي- كان لقمة سائغة للحوثي؟
▪هناك رسالة حاول مهدي المشاط تمريرها في كلمته التي ألقاها عشية 14 أكتوبر الجاري مفادها أنهم على استعداد للوقوف في صف السعودية إذا دخلت في عداء مع الأمريكيين، وقال بالحرف إنهم سيكونون في مقدمة الصفوف للدفاع عن بلاد الحرمين.
الرسالة واضحة كل الوضوح، وليست الأولى من نوعها بالطبع. وتاريخياً، إذا ما جاز لنا ربطنا الحوثيين بالخط الإمامي الزيدي، فإن من اليسير فهم هذا النمط من السياسة. فالإمام يحيى، مثلاً، رفض عروض الانجليز خلال الحرب العالمية الأولى بالانخراط في قتال الأتراك. وكانت حجته الظاهرة في ذلك أن الانجليز كفار بينما العثمانيون مسلمون. وفي الحقيقة كانت حسابات أخرى وقيود ذاتية تحول بينه وبين اتخاذ موقف منحاز ضد الأتراك الذين كان قد وقع معهم قبل الحرب العالمية بسنوات معاهدة صلح دعان الشهيرة، التي حصل الإمام بموجبها على امتيازات سياسية ومالية في إطار الدولة العثمانية. وقد حصد ثمرة موقفه المحايد لاحقاً عندما استدعاه الوالي العثماني في صنعاء لاستلام منطقة نفوذهم في شمال اليمن.
غير أن استحضار هذا القياس في سياق التعليق على تصريحات المشاط، قد يفهم على وجه خاطىء. لهذا السبب ينبغي التأكيد على أن القياس لا يدلل على تطابق الحالتين، التي تبعد إحداهما عن الأخرى مئة عام، من حيث المقدمات والنهايات. وإذا كان هناك من وظيفة لهذا الاستشهاد التاريخي، فهي إثبات كيف أن الحوثيين على غفلة عن حقيقة اختلاف الأزمنة والظروف والسياقات.
▪يوحي الحوثيون في إعلامهم، دائماً، كما لو أن الطرق أمامهم سالكة على مستوى الداخل اليمني.. وأن بطاقة التمكين سينتزعونها ب"الجهاد" المقدس، جرياً على عادة أسلافهم من الأئمة، أي أن التمكين هذه المرة سيكون ثمرة الكفاح المسلح الهادف إلى تغيير أو كسر الحظر السعودي المنتصب في طريقهم، وأن مستقبل "الولاية" مرهون كلياً بإجبار نظام آل سعود على الاعتراف بعاصمة في جواره محكومة من قبل جماعة ترتبط بوشائج سياسية وفكرية وسيكولوجية ووجدانية مع محور إقليمي تتزعمه إيران.
يعتقد الحوثيون أن اليمن لقمة سائغة وأن كل ما يحتاجونه هو المزيد من التضحية لكي تمنحهم السعودية اعترافها. على أن اعتقادهم هذا لا ينطلق من القناعة بأن إرادة اليمنيين تقف إلى جانبهم، لكنه يأتي من إحساسهم بأن إرادة اليمنيين منقسمة على نفسها إلى شظايا من الإرادات الضعيفة المتعارضة أحدها مع الأخرى، وهو ما يسهل كسرها تباعاً في ظل غياب الإرادة السعودية.
بالمقابل، هناك بعض خصوم الحوثيين الذين جعلوا كل آمالهم في الخلاص مرتبطة بدوام الموقف السعودي المضاد لأحلام وتطلعات الحوثيين.
يلتقي الحوثيون مع أبرز خصومهم في أنهم جميعاً ينسبون المقدرة على كبح وردع وإفشال وتقييد ودحر الاندفاعة الحوثية، إلى إرادة سعودية وخليجية خالصة.. وأنه، في غياب هذه الإراداة الصارمة، كان الحوثيون على وشك اجتياح، ليس اليمن فحسب، بل شبه الجزيرة العربية وإخضاعها لسلطانهم!
هذا الجنوح إلى الشطط في تصوير قوة الحوثيين مظهر تاريخي من مظاهر الخوف غير العقلاني.
لماذا لا يكون العكس هو الصحيح؟ علينا أن نتذكر أن هناك أولاً عوامل كثيرة تجعل من قدرة الحوثيين على السيطرة على كل اليمن وحكمها محل شك عميق. هذه الجماعة تتسم بطبيعة خاصة معيوبة وطنياً وفي صميم تكوينها، وفاقدة للأهلية، وتتميز بالكفاءة المثالية في تنشيط عدد لا يحصى من ردود الفعل والتمردات والمقاومات الضارية في كل مكان على مستوى البلاد.
ثم إن الأحوال في اليمن كانت قبل انطلاق ما سميت ب"عاصفة الحزم" تشتمل على مصدات وكوابح ذاتية وتعقيدات لا حصر لها، إلى جانب بقية من مصادر قوة داخلية حية، وكلها كانت جاهزة لإغراق الحوثيين في دوامتها، إلا أن كثيراً من هذه الإمكانات اختفت وتعطلت بفعل الحرب التي لا أحد ينكر أنها حصرت الحوثيين في نطاق جغرافي ضيق، هذا صحيح، لكنه نطاق قام الحوثيون بتركيز وجودهم فيه بعد تنظيفه وتسويته طوال فترة الحرب لهيمنة طويلة الأمد، ربما تقدر بسنوات إضافية. إنهم يجثمون الآن على نطاق اجتماعي بات خالياً تماماً من كل مقومات القوة المتراكمة الكابحة للطغيان والتوحش، ومن كل محركات الفعل الإيجابي المنظم. ربما يحتاج مجتمع كهذا إلى وقت ليس بالقصير لكي يشحذ طاقته من جديد ويستجمع شجاعته ثم تتبلور من داخله حركات شديدة البأس.
للتدخل السعودي دور لا ينكر في تحجيم المساحة التي كان قد تمدد الحوثيون فيها. لكن التحجيم للحوثيين كان، على الأرجح، سيحدث حتى لو لم يأت التدخل السعودي. ناهيك عن أن نتيجة كهذه أقل قيمة بالقياس إلى الضرر الهائل والمحق الذي أصاب اليمن في سبيل الوصول إليها.
والمؤكد أن التدخل السعودي إذا لم ينته، في الأخير، بإسقاط سلطة الحوثيين في العاصمة، عسكرياً أو بتسوية سياسية، فإن مجمل ما فعله حتى الآن هو أنه أضعف المجتمع في الشمال اليمني وجرده من أدواته وساعد الحوثيين على التغلغل والاستقواء.
الحوثي يستمد كل بريقه من فشل/ تعثر الحملة السعودية في تحقيق هدفها المعلن.
إنه لمن الواضح ما يجنيه الحوثي من هذه الحرب على صعيد مشروعه لإنضاج وتهيئة الأرضية لفكرة "الولاية" الطائفية، وتعزيز ماكينته العسكرية والأمنية على المجال الاجتماعي الذي يغطيه. إنها حرب تخاض منذ البداية بخطابات سياسية بالغة التنافر، وعلى سطحها تطفو اتجاهات سيكولوجية غالباً تقسيمية في جوهرها. وهذا النمط الكريه من المواجهة لم يؤد إلى إسقاط الحوثي بقدر ما أدى إلى تمكينه من إسقاط المجتمع اليمني في أجزاء رئيسية من البلاد وإحكام اليد البربرية الغليظة عليها.
الحقيقة هي أن هذا البلد أكبر من أن يكون لقمة سائغة بالمعنى الذي يتصوره بعض الحوثيين وبعض خصومهم، حتى لو تخلت السعودية عن موقفها المناهض للحوثيين.
والحقيقة هي أنه ثبت بالتجربة أن الممانعة السعودية والحظر السعودي لحكم الحوثيين لم يكن هو الضمانة أو الوسيلة الحاسمة لإجهاض ودفن مشروع وطموحات الحوثيين.
اليمن جدير بهزيمة المشاريع العمياء عن طريق استنزافها، وليس بالضرورة هزيمة بمعناها العسكري التقليدي المباشر. اليمن كواقع اجتماعي وعر ومعقد ومبهم، كنطاق جغرافي وحضاري له خصائصه وتركيبته وتجربته التاريخية.