منذ أكثر من 18عاماً وأنا أكتب وخلال هذه الفترة أعلنت اعتزالي الكتابة ثلاث مرات..
وفي كل مرة أعود دون خجل أو استحياء من قراري الذي أعلنته وتراجعت عنه، وربما أتخذ ذاك القرار مجدداً في المستقبل.. لا أدري؟
المهم..
إذا حدث ذلك فلا تصدقوني (وعلى رأي المثل المصري: يموت الزمار وايده بتلعب)..
طبعاً حين اتخذت قراري لم أكن أكذب أو أنوي الرجوع بل كنت في ذروة الصدق مع نفسي ومع القراء..
لكن؟؟
(هذا هو ما يسمى بصدق اللحظة).. صدق اللحظة الذي يخضع للمتغيرات والظروف والضغوط النفسية والعاطفية.. فإذا قيل لك: عهد مني ما أحب غيرك، ومر الزمان وأحب سواك فالتمس له العذر لأنه لم يكذب عليك حينها ولكنه ربما اكتشف أنك لست أهلاً للوفاء..
يقول الباهلي:
وإني لذو ودٍ لمن دام وده
وجاف لمن رام الجفاء ملولُ
وفي اليأس من ذل المطامع راحةٌ
وفي الناس ممن لا يحب بديلُ
وإذا كان لديك صديق كان يقسم لك أنه لن يبيعك بكنوز الأرض ثم نكث بوعده وباعك بثمن بخس، فاعلم أنه لم يكن يكذب عليك والتمس له العذر (فالقرش يلعب بحمران العيون)..
وإذا رأيت امرأة تلطم خدها وتشق جيبها وتنوح على بعلها وتقول: (حرام عليا الرجال بعدك)، ثم لم يمر عام إلا وقد تزوجت بغيره فاعلم أنها لم تكن تكذب في تحريمها الرجال ولكنه صدق اللحظة فقط..
وبالمقابل إذا سمعت الرجل يبكي على زوجته ويقول: (كيف أعيش بعدك ويفدوا بالنسوان عليش).. لا تصدقه لأنه سيعيش بعدها بأسبوع مع واحدة أخرى ويقول: عاد أنا عرفت طعم السعادة.
ويصف الشاعر أبو القاسم الشابي صدق اللحظة بقوله:
ما كنت أحسب بعد موتك يا أبي
ومشاعري عمياء بالأحزانِ
أني سأظمأ للحياة وأحتسي
من نهرها المتوهج النشوانِ
وأعود للدنيا بقلبٍ خافقٍ
للحب والأفراح والألحانِ
ولكلِّ ما في الكونِ من صُوَرِ المنى
وغرائبِ الأهُواء والأشجانِ
حتى تحرّكتِ السّنون، وأقبلتْ
فتنُ الحياة بسِحرِها الفنَّانِ
فإذا أنا ما زلتُ طفِلاً، مُولَعاً
بتعقُّبِ الأضواءِ والألوانِ
وإذا التشأوُمُ بالحياة ورفضُها
ضرْبٌ من الُبهتانِ والهذيانِ
وإذا سمعت أماً تدعو على ولدها، فلا تصدقها وإياك أن تشاركها الدعاء أو تقول آمين، فالمثل يقول: (أدعي على ابني وما أحب أحد يقول آمين)..
ولا تصدقي عزيزتي المرأة كلام الرجل مطلقاً سواء كان حبيباً أو خاطباً أو زوجاً.. فالحبيب يغريك بكلام معسول ليوقعك في الخطيئة ثم يبحث عن امرأة غيرك ليتزوجها فهو لا يحب إلا العفيفات..
وكل خاطب كذاب كما تقول الأمثال فكل رجل يعد مخطوبته بأن يجعلها ملكة متوجة تنعم بالديباج والحلي والحُلل، ويهديها من الشمس طرحة ومن القمر فستاناً، فإذا تزوجها باع ذهبها وطالبها بعسب العيد وما تحصل عليه عند ولادتها من النساء..
أما الزوج ويا عيني على كثرة أكاذيبه.. وكما تقول جدتي (الزوج لو حطش فوق ركبته لابد من قفدته)..
وشهد شاهد من الرجال وهو نزار قباني قائلاً:
يُخبرني أني تحفته وأساوي آلاف النجمات
وبأني كنز؛ وبأني أجمل ما شاهد من لوحات
يبني لي قصراً من وهم
لا أسكن فيه سوى لحظات
واعود إلى طاولتي
لاشيء معي إلا الكلمات
لذا أحبي زوجك دون أن تتعلقي به أو تعلقي مصيرك بحبه..
وإذا سمعت زوجة تقول وهي غاضبة من زوجها: ما عاد اشتيش أعيش معه يوم واحد بس جالسة علشان العيال أيضاً لا تصدقها وتنصحها بالطلاق، فهي تحبه ولا تريد أن تعيش بدونه يوما واحداً.
ذلك هو صدق اللحظة يا سادة، الذي يزول بزوال المؤثرات.
وقد جعل المولى عز وجل لهذه المواقف حلاً ومخرجاً، قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه).
همسة:
وعدتك أن لا أعود... وعُدت
وأن لا أموت اشتياقاً ومُت
وعدت بأشياء أكبر مني
فماذا بنفسي فعلت؟
لقد أكذب من شدة الصِدق
والحمدلله أني كذبت
(نزار قباني)