حكيم الجبلي
تاريخياً.. الإمامة تعني الحرب والغياب العُضَال للاستقرار
من ناحية تاريخية، وعند التفكير في ما يمكن أن تؤول إليه طموحات جماعة الحوثي، يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: هل لا يزال بالإمكان تأسيس دول وممالك وسلطنات بالطرق الحربية التي تأسست بها دولة آل سعود على سبيل المثال قبل مئة عام من الآن؟ أقصد نموذجاً يتكون من أمير طامح يقترن بدعوة دينية مسلحة ثم ينطلق لتوسيع مملكته عبر الغزو والاخضاع! لئن كان هذا ممكناً قبل قرن من الآن، حيث كانت الحروب وحدها تنشىء الدول، فإن إمكانيته في هذا العصر محل شك عميق. والشك يصبح مضاعفاً عندما يتعلق الأمر بجماعة كالحوثيين وبلد كاليمن.
أما من ناحية الجغرافيا السياسية في ضوء التاريخ، فإن السؤال الذي يحضر إلى الذهن هو: لماذا لم تتمكن الإمامة الزيدية، انطلاقاً من مرتفعات شمال اليمن، من تحقيق وحدات سياسية كبرى تستمر طويلاً في الزمن وتمتد على أراض واسعة من شبه الجزيرة العربية بما يضاهي، مثلاً، تلك المساحات الشاسعة التي كانت تتمدد فيها الدولة السعودية مع الدعوة الوهابية انطلاقاً من نجد؟
مع العلم أن النواة الأولى للإمامة الهادوية الزيدية أقدم عهداً بكثير مقارنة بحداثة عمر التجربة السعودية الوهابية الأولى. مع العلم أن الإمامة حظيت بطفرات قصيرة من الاتساع داخل المجال اليمني الكبير. لكنها مجرد طفرات حدثت في أزمنة لم تعد صالحة للقياس.
في بداية القرن العشرين، تزامنت تحركات عبدالعزيز آل سعود، مؤسس آخر نسخة من الدولة السعودية، مع بدء حركة الإمام الزيدي يحيى حميد الدين التي كانت تعي نفسها بوصفها الامتداد الطبيعي لخط الإمامة الذي يبلغ مداه في التاريخ اليمني، وفق الأسطورة المتداولة، ألف عام تراوحت بين انبعاث وكمون.
الأول (ابن سعود) استطاع توسيع مملكته في طورها الثالث على أغلب مساحة شبه الجزيرة العربية، بل وتوغل إلى أعماق من المجال الجغرفي الذي يصنف تاريخياً ضمن الحدود الطبيعية لليمن الحضاري.
بينما الثاني بالكاد استطاع توحيد مملكة صغيرة تضم الشمال اليمني الذي كان منطقة نفوذ للأتراك، حيث شاءت المصادفة أن يخرج هؤلاء من الحرب العالمية الأولى مهزومين ليقرروا الانسحاب من شمال اليمن وتسليمها للإمام الجاهز حينها لملء الفراغ والتغلب على المنافسين في نطاق الشمال العثماني. بحلول الأربعينيات بدأ نظام حميد الدين يواجه تحديات تهدد استمراره، فيما كانت مملكة بن سعود في مأمن من تحديات مشابهة، ثم حالفها الحظ والصدفة باكتشاف ثروة نفطية ضخمة جداً شكلت منذ الخمسينات، على الأقل، ركيزة ثانية من ركائز الشرعية للنظام السعودي تسند الركائز الأخرى المتمثلة في قوة الشوكة والقمع إضافة إلى الدعوة الدينية الوهابية كمكون رئيس من مكونات الدولة.
نعرف أن هناك طفرات تاريخية نادرة امتدت فيها دولة الإمامة إلى جنوب وشرق اليمن عن طريق الغزو المسلح لكنها حالات استثنائية ما تلبث بعدها الإمامة أن تعود أدراجها إلى صعدة أو شمال الشمال عموماً.
يقول البردوني: "أما مناطق تهامة والجنوب فإنها خضعت لعدة ملوك وسلاطين ولم يحكمها الائمة إلا مطلع عشرينات القرن الماضي بغض النظر عن الفلتات التي كان يتمتع فيها فرد أو أفراد من الأئمة بالاستيلاء المسلح على مناطق جنوبية بلا بيعة".
لابد أن ثمة أسباباً كثيرة ساهمت ليس فقط في احتباس الإمامة الهادوية الزيدية داخل نطاق جغرافي ضيق في الأجزاء الشمالية من البلاد، بل وفي ديمومة عدم الاستقرار العضال داخل هذا النطاق. ولعل أحد أهم هذه الأسباب يكمن في طبيعة المذهب الزيدي الهادوي نفسه الذي يشجع نظرياً كل العائلات الهاشمية التي تؤمن بانتسابها إلى ذرية الحسن والحسين، على الخروج والانشقاق عن الإمام القائم وتأسيس إمامة مضادة وفق شروط فضفاضة يمكن تأويلها وتطويعها لهذا الغرض.
أمين الريحاني، في كتابه "ملوك العرب"، وبعد أن زار اليمن في عهد الإمام يحيى حميد الدين، تناول بالتعليق قضية الإمامة الزيدية الهادوية وشروطها الأربعة عشر المعروفة، وتساءل قائلا: "كيف يثبت في اليمن ملك ويدوم فيها نظام، وكيف تضمن سبل الفلاح والعمران، إذا كان يحق لكل من كان شجاعاً طامحاً، وكانت له بعض السيادة في عشيرته، أن يخرج شاهراً سيفه، داعياً إلى دينه، طالباً الإمامة؟". والريحاني يشير إلى شروط الإمامة الهادوية المتعلقة بالشجاعة والفروسية والنسب العلوي الفاطمي وبقية الشروط، والتي تدل في مجموعها على إعطاء الحق لأي فرد من النخبة الهاشمية العلوية الفاطمية في أي زمان ومكان بالخروج على الإمام القائم وإعلان نفسه إماماً طالما يعتقد توافره على الشروط الهادوية. وهذا الشق في المذهب الهادوي كان مصدراً من مصادر عدم الاستقرار السياسي لحكم الأئمة على مدى تاريخهم الطويل الحافل بالحروب والانقسامات والتشظي السياسي.
يضيف الريحاني: "كانت اليمن قبل جلاء الترك عنها ميداناً لسيف الإسلام -الجهاد ثالث الماء والزاد- بل لسيف كل طماح من السادة- ميدان هلاك ودمار، لا يسكن فيه غبار، ولا تخمد له نار، إلا في فترة عياء عام أو تفوق شخصي مثل فترة الإمام يحيى حميد الدين".
واستطرد الريحاني "ولا عجب، وتلك طريقة الاستيلاء على الإمامة، إذا كانت الرهائن أساس الملك، لكنه ولا ريب أساس فاسد، لا يسلم حتى في أيام الحرب"، مشيراً إلى عدد من علاقات الحرب التي كانت قائمة أثناء زيارة الريحاني لليمن: حرب بين دولة الإمام يحيى الناشئة وبين الإدريسي وحرب خفية بينها وبين الشوافع واحتراب متقطع مع قبيلتي حاشد وبكيل، واحتراب سياسي مع الانكليز، واحتراب مع السلاطين في المحميات جنوب اليمن، فضلاً عن السادة أقرانه الطامعين بمكانه.
من ناحية تاريخية، وعند التفكير في ما يمكن أن تؤول إليه طموحات جماعة الحوثي، يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: هل لا يزال بالإمكان تأسيس دول وممالك وسلطنات بالطرق الحربية التي تأسست بها دولة آل سعود على سبيل المثال قبل مئة عام من الآن؟ أقصد نموذجاً يتكون من أمير طامح يقترن بدعوة دينية مسلحة ثم ينطلق لتوسيع مملكته عبر الغزو والاخضاع! لئن كان هذا ممكناً قبل قرن من الآن، حيث كانت الحروب وحدها تنشىء الدول، فإن إمكانيته في هذا العصر محل شك عميق. والشك يصبح مضاعفاً عندما يتعلق الأمر بجماعة كالحوثيين وبلد كاليمن.
أما من ناحية الجغرافيا السياسية في ضوء التاريخ، فإن السؤال الذي يحضر إلى الذهن هو: لماذا لم تتمكن الإمامة الزيدية، انطلاقاً من مرتفعات شمال اليمن، من تحقيق وحدات سياسية كبرى تستمر طويلاً في الزمن وتمتد على أراض واسعة من شبه الجزيرة العربية بما يضاهي، مثلاً، تلك المساحات الشاسعة التي كانت تتمدد فيها الدولة السعودية مع الدعوة الوهابية انطلاقاً من نجد؟
مع العلم أن النواة الأولى للإمامة الهادوية الزيدية أقدم عهداً بكثير مقارنة بحداثة عمر التجربة السعودية الوهابية الأولى. مع العلم أن الإمامة حظيت بطفرات قصيرة من الاتساع داخل المجال اليمني الكبير. لكنها مجرد طفرات حدثت في أزمنة لم تعد صالحة للقياس.
في بداية القرن العشرين، تزامنت تحركات عبدالعزيز آل سعود، مؤسس آخر نسخة من الدولة السعودية، مع بدء حركة الإمام الزيدي يحيى حميد الدين التي كانت تعي نفسها بوصفها الامتداد الطبيعي لخط الإمامة الذي يبلغ مداه في التاريخ اليمني، وفق الأسطورة المتداولة، ألف عام تراوحت بين انبعاث وكمون.
الأول (ابن سعود) استطاع توسيع مملكته في طورها الثالث على أغلب مساحة شبه الجزيرة العربية، بل وتوغل إلى أعماق من المجال الجغرفي الذي يصنف تاريخياً ضمن الحدود الطبيعية لليمن الحضاري.
بينما الثاني بالكاد استطاع توحيد مملكة صغيرة تضم الشمال اليمني الذي كان منطقة نفوذ للأتراك، حيث شاءت المصادفة أن يخرج هؤلاء من الحرب العالمية الأولى مهزومين ليقرروا الانسحاب من شمال اليمن وتسليمها للإمام الجاهز حينها لملء الفراغ والتغلب على المنافسين في نطاق الشمال العثماني. بحلول الأربعينيات بدأ نظام حميد الدين يواجه تحديات تهدد استمراره، فيما كانت مملكة بن سعود في مأمن من تحديات مشابهة، ثم حالفها الحظ والصدفة باكتشاف ثروة نفطية ضخمة جداً شكلت منذ الخمسينات، على الأقل، ركيزة ثانية من ركائز الشرعية للنظام السعودي تسند الركائز الأخرى المتمثلة في قوة الشوكة والقمع إضافة إلى الدعوة الدينية الوهابية كمكون رئيس من مكونات الدولة.
نعرف أن هناك طفرات تاريخية نادرة امتدت فيها دولة الإمامة إلى جنوب وشرق اليمن عن طريق الغزو المسلح لكنها حالات استثنائية ما تلبث بعدها الإمامة أن تعود أدراجها إلى صعدة أو شمال الشمال عموماً.
يقول البردوني: "أما مناطق تهامة والجنوب فإنها خضعت لعدة ملوك وسلاطين ولم يحكمها الائمة إلا مطلع عشرينات القرن الماضي بغض النظر عن الفلتات التي كان يتمتع فيها فرد أو أفراد من الأئمة بالاستيلاء المسلح على مناطق جنوبية بلا بيعة".
لابد أن ثمة أسباباً كثيرة ساهمت ليس فقط في احتباس الإمامة الهادوية الزيدية داخل نطاق جغرافي ضيق في الأجزاء الشمالية من البلاد، بل وفي ديمومة عدم الاستقرار العضال داخل هذا النطاق. ولعل أحد أهم هذه الأسباب يكمن في طبيعة المذهب الزيدي الهادوي نفسه الذي يشجع نظرياً كل العائلات الهاشمية التي تؤمن بانتسابها إلى ذرية الحسن والحسين، على الخروج والانشقاق عن الإمام القائم وتأسيس إمامة مضادة وفق شروط فضفاضة يمكن تأويلها وتطويعها لهذا الغرض.
أمين الريحاني، في كتابه "ملوك العرب"، وبعد أن زار اليمن في عهد الإمام يحيى حميد الدين، تناول بالتعليق قضية الإمامة الزيدية الهادوية وشروطها الأربعة عشر المعروفة، وتساءل قائلا: "كيف يثبت في اليمن ملك ويدوم فيها نظام، وكيف تضمن سبل الفلاح والعمران، إذا كان يحق لكل من كان شجاعاً طامحاً، وكانت له بعض السيادة في عشيرته، أن يخرج شاهراً سيفه، داعياً إلى دينه، طالباً الإمامة؟". والريحاني يشير إلى شروط الإمامة الهادوية المتعلقة بالشجاعة والفروسية والنسب العلوي الفاطمي وبقية الشروط، والتي تدل في مجموعها على إعطاء الحق لأي فرد من النخبة الهاشمية العلوية الفاطمية في أي زمان ومكان بالخروج على الإمام القائم وإعلان نفسه إماماً طالما يعتقد توافره على الشروط الهادوية. وهذا الشق في المذهب الهادوي كان مصدراً من مصادر عدم الاستقرار السياسي لحكم الأئمة على مدى تاريخهم الطويل الحافل بالحروب والانقسامات والتشظي السياسي.
يضيف الريحاني: "كانت اليمن قبل جلاء الترك عنها ميداناً لسيف الإسلام -الجهاد ثالث الماء والزاد- بل لسيف كل طماح من السادة- ميدان هلاك ودمار، لا يسكن فيه غبار، ولا تخمد له نار، إلا في فترة عياء عام أو تفوق شخصي مثل فترة الإمام يحيى حميد الدين".
واستطرد الريحاني "ولا عجب، وتلك طريقة الاستيلاء على الإمامة، إذا كانت الرهائن أساس الملك، لكنه ولا ريب أساس فاسد، لا يسلم حتى في أيام الحرب"، مشيراً إلى عدد من علاقات الحرب التي كانت قائمة أثناء زيارة الريحاني لليمن: حرب بين دولة الإمام يحيى الناشئة وبين الإدريسي وحرب خفية بينها وبين الشوافع واحتراب متقطع مع قبيلتي حاشد وبكيل، واحتراب سياسي مع الانكليز، واحتراب مع السلاطين في المحميات جنوب اليمن، فضلاً عن السادة أقرانه الطامعين بمكانه.