قبل 1400 سنة، تقريبًا، طوّع اليمنيون الطبيعة القاسية لصالحهم، شقوا المدرجات في الجبال وبنوا السدود وشيدوا المعالم والقصور الفاخرة، وكان إنسان اليمن عملاقًا اقتصاديًا تشهد له قوافل البخور واللبان ورحلة الشتاء والصيف، لكننا تراجعنا إلى نقطة الصفر، ولم نعد عمالقة ولا هم يحزنون، واقتصادنا تعبان، وبلادنا كسيرة، وأصبحنا نعيش الحياة كأمة مدانة من الحياة نفسها بينما صار العالم ينظر إلينا باستخفاف، لأننا أصلاً استخففنا بأنفسنا ومش عارف إلى متى سيظل هذا البلد المُنهك منكفئًا على نفسه ومتعثراً يُرَقِّع نثرات الخائبين والنهّابة..؟!
الواقع أننا لم نعد بحاجة إلى أية مبادرة تأتي من الجوار أو من أصدقاء اليمن الدوليين.. قالوا مكة أدرى بشعابها، ونحن اليمنيين أدرى بمشاكلنا وباحتياجاتنا الحقيقية، وهي احتياجات بسيطة لو صلينا على النبي، لكن الدبور وقلة الخير والصراع في سبيل التوافه كلها أشياء محلقة فوق رؤوسنا، ولو ركزنا شوية بس سنعرف أن بلادنا تحتاج الآن، وبشكل عاجل وسريع، إلى السلام وإيقاف الحرب.
وبعد هذا ستحتاج اليمن إلى دستور جديد يكون الوطن فيه قبل الدين وسنحتاج إلى رئيس جديد تكون أولويات اليمنيين في الأمن والعيش الكريم قبل أولوياته في البقاء على الكرسي مع ضمان أن يحفظ اليمنيون لكل رؤسائهم السابقين حق الاحترام والتقدير، فما فادتنا الخصومات بشيء للآن غير المهاترات والحروب والجعيث المستمر. وسنحتاج إلى قيادات عسكرية جديدة لم تتلطخ أياديها في قتل اليمنيين أو وضعهم في السجون.
سنحتاج إلى خطاب إعلامي جديد لا مكر فيه ولا تخوين ولا تمجيد لأشخاص، يصاحبه خطاب سياسي ملهم لطاقات اليمنيين وآمالهم وأحلامهم..
وتحتاج اليمن إلى نظام جديد يمجّد قيم الحب والتسامح والعمل، ويعد الشعب بأن محلات بيع الورد ستكون أكثر من المقابر، وأن المراكز الثقافية ودور عروض السينما والمسرح ستكون أكثر من أقسام الشرطة، وأن عيد الشجرة هو اليوم الوطني الأغر.
تحتاج اليمن لتتخلص مما هي عليه إلى أفكار جديدة ومنهج دراسي حديث يحيي حصص الموسيقى والرسم ويقدمها على فقه ما قبل 1500 عام، وتكون النظافة هي الحصة الأولى في جدول الدروس اليومي، فحين يتربى جيل بأكمله على مشاهدة العبث وقذارة الحمامات والفصول والساحات يكبر عابثًا وتتكسر الذائقة والبلد.
تحتاج اليمن لتتخلص من محنتها الحالية إلى مساجد تدعو في كل صلاة إلى محبة الله ومحبة الإنسان اللي هو خليفة الله في الأرض.. وإلى خطاب ديني جديد يتحدث عن الغد لا عن قريش ولا عن موقعة الجمل، ولا يحرض ضد فئة أو فكر أو دين آخر... ولن يتم هذا إلا بوجود رجال دين جُدد لا قداسة لأحد فيهم، القداسة لله وحده ولحق الإنسان في الحياة الكريمة..
وقبل كل شيء، اليمن بحاجة ماسة الآن إلى قوة ثالثة تقوم -فعليًا- بمهمة الإنقاذ الاقتصادي وخوض معارك التنمية، ولن ننجح في ذلك إلا بوجود جيش وطني محترم يحمل عقيدة وطنية صرفة، ويقوم بمهام حماية البلد والناس والدستور من غوايات الأشخاص وعبث الجماعات.
يتعين على كل محب صادق لهذا البلد العظيم أن يدرك الآن جيدًا بأن اليمن تمضي يوماً بعد آخر إلى الهاوية، خصوصًا وأن الأمر صار يشبه -تماماً- التفاف سرب نسور جائعة على جثة ميتة هي اليمن.