فكري قاسم
باشِت وحبوب ومعطاء لا يعي ما الذي يدور حوله !
مافيش في الدنيا كلها عموما من هم أطيب من اليمنيين؛ لكنها الطيبة التي ترهق صاحبها، وتقوده إلى مآلات صعبة وسيئة في الغالب، وتحشره على الدوام في خانة الحبوب والباشت والمعطاء الذي ينبع دائما إلى الوسط ويقدم التضحيات الجسام في قضايا لا تعنيه أصلا وهو يفعل ذلك بحماس وصدق دون أن يفهم أو يعي ما الذي يدور حوله.
ومن أول التاريخ بالمناسبة وإحنا شعب نتسحبل وراء كل فكرة تأتي إلينا دون أن يكون لنا دراية ماهي أصلا ونصطف خلف كل جماعة يصبح لها صوت مسموع دون أن نتأكد بأن ذلك الصوت على صواب، وكل من جاء إلينا راكبا جواد القوة؛ نرحب به، ونفتديه، ونبترع لأجله ونسير خلفه بر بحر جو دون أن ندري إلى أين هو سائر بنا أو إلى أين نحن ذاهبون بالضبط ؟!
جاءت إلينا الديانة اليهودية في الماضي العتيد وتيهودنا أكثر من سبعمائة سنة حتى أصبح كل ما في اليمن يهوديا وصرنا شعب نعيش طقوس الرهبان والأحبار ونسينا اليمن، وجاءت الديانة النصرانية من بعد ذلك وتنصرنا قرابة مائتين وسبعين سنة حتى أصبح كل مافي اليمن متنصرنا وصرنا شعب يعيش طقوس الباباوات والقساوسة وأهملنا اليمن، وجاء إلينا الإسلام من بعد ذلك وتوهدرنا إليه ألف وخمسمائة سنة حتى أصبح كل مافي البلد إسلاميا وصارت طقوس الديانة الجديدة في متناول أيدينا وصرنا مع الوقت مسلمين فقط ولم نعد يمنيين.
وجت الشيوعية إلينا وتشيوعنا أكثر من لينين وماركس، وجاءت الناصرية وأصبحنا ناصريين أكثر من ناصر نفسه، وجاءت البعثية وتبعوثنا أكثر من عفلق، وصرنا إخوان مسلمين أكثر من حسن البناء، وعلوين أكثر من علي بن أبي طالب، ومع كل فكرة نعتنقها وخلف كل جماعة نصطف وراءها تصبح هناك حروب ودماء وأحقاد نتوارثها جيل بعد جيل.
وبصريح العبارة نحن في اليمن لم نعد بحاجة لمعرفة ما الذي قام به عيسى، وموسى، ومحمد، وعلي بن أبي طالب، وماركس، وناصر، وعفلق، وحسن البناء، لأن كل هؤلاء الحاضرين في تفاصيل المشهد اليمني الخارب والمعصود منذ دهر ليسو يمنيين أصلا ولا علاقة لأحدهم بواقعنا المعاش ونحتاج الآن تحديدا، وأكثر من أي وقت آخر مضى، أن نعرف ما الذي فعلته بلقيس وأسعد الكامل وذمار علي وأروى بنت أحمد الصليحي و... و...على أن تاريخنا أصلا ضارب في القدم وملهمينا الحقيقيون الذين شيدوا أضخم الحضارات منسيين في غياهب الإهمال ماجعلنا أمة مهملة ومنسية بين الأمم.
وأما متى سينتهي هذا الماراثون المدمر للطاقات وللحياة؛ فذلك عندما نعود بضمير وإخلاص إلى هويتنا العتيقة الضاربة في الوجود، وعندما تأت إلينا أفكار من صميم حضارتنا اليمنية التليدة التي سبقت ميلاد كل الأفكار والأمم، ونحن في حقيقة الحال، بعد كل هذه الخسارات والحروب لم نعد بحاجة إلى أي فكرة متداولة لا تحاكي الشخصية اليمنية ولاتنظر إلى اليمن بعيون يمنية صرفة.
وأنا متأكد جدا أن لدى ملهمينا الحقيقيين الذين قايضناهم بملهمين من خارج البيت ما يكفي لأن يصبح إنسان اليمن باشت وحبوب ومتفان يعي مايدور حوله ويعرف إلى أين هو ذاهب في زحام الهويات المتناحرة ، ومادون ذلك عموما، سيظل بيتنا اليمني خرابة يتناحر عليها الآباء والأبناء والأجداد في ماراثون البحث المستمر عن هوية بديلة .