د. عبدالودود مقشر

د. عبدالودود مقشر

تابعنى على

المخا في التاريخ.. تقاطع صراع المصالح البريطانية التركية

Friday 29 March 2019 الساعة 01:31 pm

رصد المؤرخ توماس مارستون Thomas E. Marston في كتابه (سيطرة الامبراطورية البريطانية على البحر الأحمر) بداية النشاط البريطاني في سواحل البحر الأحمر منذ القرن السابع عشر الميلادي، وذلك عندما وافقت اليزابث الأولى ملكة بريطانيا (1558- 1603م)، لرعاياها الإنجليز الذين قاموا بتأسيس شركة تجار لندن المتعاملين مع الهند عام 1599م، والتي أصبحت تُعرف باسم شركة الهند الشرقية الإنجليزية، بغرض الحصول على التجارة الهندية والشرقية عموماً.

استخدمت تركيا المخا لتحسين علاقتها مع بريطانيا وجاء الهولنديون فأحرقوها بسبب نزاع حول نسبة الضرائب

وقد أعطى التاج البريطاني هذه الشركة حق احتكار التجارة بين إنجلترا وكل البلاد الواقعة إلى شرق رأس الرجاء الصالح؛ مع سلطات سيادية على المناطق التي تسيطر عليها، وإعفاءات جمركية على بضائعها، وأصبح لها الحق في الاحتفاظ بحاميات عسكرية وإعلان الحرب وعقد الصلح والاتفاقيات مع الدول الأخرى، وتولي السلطة القضائية، والإشراف على العدالة وضرب العملة، ومنح هذا الامتياز إقامة مشاريع تجارية واستعمارية في هذه المنطقة إلا أن الشركة اقتصر نشاطها على حماية طرق المواصلات بين أوروبا والهند، وكذا حماية التجارة البريطانية في حوض المحيط الهندي؛ سعياً إلى استبعاد القوى الغربية التي تنافسها في المنطقة كالبرتغال والهولنديين والفرنسيين.

وذكر الكولونيل جاكوب في كتابه (ملوك شبه الجزيرة العربية) أولى محاولات شركة الهندية الشرقية الانجليزية الجادة لدخول السواحل اليمنية في عام 1610م، حينما أرسلت السير هنري ميديلتون برحلة إلى المخا بثلاث سفن، إلا أنه وقع في أسر حاكم ميناء المخا وقد تم ترحيله ومعه ثلاثون بحاراً إلى صنعاء، حيث أمضى بها ما يقارب الشهر، وقد تعجب باشا صنعاء في ذلك الوقت (يقصد الوالي العثماني جعفر باشا (1607- 1616م) من جرأة الإنجليز، وصدرت الأوامر من الآستانة بإطلاق سراحه محذرة حكومة بريطانيا من مغبة العودة إلى شبه الجزيرة العربية، أو الاقتراب من الأراضي المقدسة.

وأكد الكابتن بلايفير -معاون الكابتن هينس الذي احتل عدن- في كتابه (اليمن أو تاريخ العربية السعيدة) وهو كتاب رسمي تبنته الحكومة البريطانية في بومباي وطبعته في سنة 1859م، أن الهدف الأساسي لقدوم السفن الانجليزية إلى المخا بالذات هو إيجاد أسواق تجارية جديدة للمنتجات الإنجليزية، إضافة إلى ما يمثله ميناء المخا كونه مركزاً تجارياً مهماً ومؤثراً في التجارة الدولية لأنه يعدّ حلقة وصل مهمة بين الهند ومصر وجزءاً من السواحل الشرقية لأفريقيا وجنوب شرق آسيا، لذلك وصلت السفن البريطانية إلى المخا لأول مرة في 1609م بقيادة الكابتن الكسندر شاربي Alexander Sharpey والوكيل التجاري جورادين Jourdain على سفينة Ascension تحمل شحناً كثيرة من الحديد والجوخ والصوف والرصاص والقصدير والملابس، فقد وصلت في 8 أبريل 1609م إلى عدن، حيث تعامل معها الحاكم العثماني لهذه المنطقة، بمنتهى الانتهازية وسوء الإدارة والمحسوبية، حسب ما يحكيه هذا الكتاب، فقد طلب الحاكم نزول الكابتن الذي قبل، وما إن نزل واستقبله بحفاوة حتى اعتقله وحبسه ستة أسابيع، ثم أمر بإنزال البضائع البريطانية وقيمتها ألفين وخمسمائة دولار، وأطلقه بعد أن أخذ منه رهينتين من بحارة السفينة لكي يسلم ألفي دولار أخرى نظير رسو السفينة في مرسى عدن، وأرسله بسفينته إلى المخا لمقابلة باشا اليمن –وهو آنذاك الوالي العثماني جعفر باشا-، فوصل المخا في العاشر من مايو 1609م والتي كتب فيما بعد الكابتن شاربي تقريراً عنها واصفاً إياها بأنها "أكبر سوق تجاري بين الهند ومصر"، ووصف حاكمها بأنه ودود ومتحرر ومتسامح وبأنه يسمح بحرية الحركة والتجارة للأجانب.

استقبله الوالي جعفر باشا مبيناً له أن البحر الأحمر بحيرة عثمانية ولا يسمح للسفن المسيحية بالإبحار بها بسبب الأماكن المقدسة، ولكن إذا أحضر فرمان سلطاني من اسطنبول فلا بأس باعتبار سفنهم تجارية، وهو ما لم يحصل في البعثة التجارية التي أرسلتها شركة الهند الشرقية الانجليزية بقيادة الاميرال السير هنري ميدلتون Henry Meddleton في رحلة تجارية إلى البحر الأحمر، وتضم ثلاث سفن هي: نريدس انكريزيس Increases وببركورن Peppercorn ودارلنج Darling في سنة 1610م ووصلت للمخا في 14 نوفمبر وتعرضت للاعتقال والقتل والطرد على يد الحاكم العثماني للمخا رجب اغا بأوامر من جعفر باشا الوالي العثماني لليمن، واستطاع ميدلتون الفرار من السجن العثماني بالمخا والوصول الى سفنه في ميناء المخا، ولكنه قبل مغادرته أراد أن يسجل أول قصف بريطاني للمخا، وتحدث بلايفير عن ذلك بفخر وأن ميدلتون بعد وصوله إلى أسطوله الذي هو أساساً يحمل مدافع حديثة قامت بدك وتدمير المخا، مما أجبر حاكم المخا على دفع مبلغ ثمانية عشر ألف دولار، وهو مبلغ كبير آنذاك تعويضاً عن الخسائر التي خسرها، وذكرت الكاتبة جاكلين بيرين في كتابها (اكتشاف جزيرة العرب)، تدمير المخا الأول وقالت ساخرة إن ميدلتون ودع "بتحية حارة من قنابل مدافعه".

تأسيس الوكالة الانجليزية بالمخا

ذكر تقرير الكابتن شاربي Sharpey قائد أول بعثة بريطانية للمخا باعتبارها "أكبر سوق تجاري بين الهند ومصر"، وراجعت شركة الهند الشرقية الإنجليزية البعثة البريطانية الأولى إلى المخا وتقرير شاربي وجورادين مع تقرير ضابطين أرسلهما شاربي إلى المخا قبل وصوله إليها وهما وليام ريفيت وفيليب جلاسكو (كل هذه التقارير موجودة في Records of Yemen في المجلد الأول) وكلها تثبت أن المخا ستكون نقطة ارتكاز مهمة ومن سيضع يده عليها سيتحكم بنطاق اقتصادي واسع، وأن المستقبل لتجارة البن والقهوة وخاصة بعد انتشاره في أوروبا، وسماح الكنيسة بتعاطيه بعدما حرمته، إضافة إلى تجارته في الهند وفارس، وأيضاً هناك تجارة لا تقل عن تجارة البن وهي النيلة التي تشتهر بها اليمن وأهميتها في سوق المنسوجات الدولية لا يقل عن البن، وأشار الضابطان إلى وجود أعداد من التجار العثمانيين، والشوام، والهنود، والأحباش، وغيرهم يمارسون التجارة مع المخا، وقد جلبا معهما كثيراً من البضائع مثل الملابس والقصدير والحرير وغيرها، وأوضحا أن التعامل النقدي الفوري كان يتم مع التجار الأحباش والهنود.

المحاولة الثالثة

تبدلت المعاملة السيئة تماماً مع مجيء البعثة الإنجليزية الثالثة إلى اليمن عام 1612م، بقيادة جون ساريس John Saris، حيث سُمح للإنجليز بالمتاجرة مع الموانئ اليمنية، وخاصة ميناء المخا؛ غير أنه لم يسمح بإقامة وكالة دائمة فيه؛ ويبدو أن ذلك راجع إلى إدراك العثمانيين أهمية فتح الموانئ اليمنية أمام التجارة الأوروبية في زيادة عائداتهم المالية من هذه الموانئ، ولأهمية تجارة المخا، فقد أرسلت شركة الهند الشرقية الإنجليزية بعثة تجارية جديدة بقيادة جون ساريس على متن السفينة كلوف Clove بصحبته السفينتين هما: توماسThomas و هكتور Hector ، وقد وصل إلى المخا عام 1612م.

واستقبل حاكم المخا العثماني هذه البعثة بحفاوة بالغة، وقدّم لساريس اعتذاراً عما بدر من الحاكم السابق رجب آغا تجاه ميدلتون، الذي أثرت بعثته على بعثة ساريس، حيث رفض التجار في المخا التعامل معه؛ مما أثّر على التجارة الإنجليزية في البحر الأحمر مدة من الزمن.

ومما يلفت الانتباه، تغيّر موقف الحكومة العثمانية تجاه التجارة الإنجليزية في البحر الأحمر. فمنذ وصول رحلة ساريس صدرت التعليمات من الوالي العثماني باليمن بالسماح للأجانب والسفن الهندية بحرية التجارة مع الموانئ اليمنية، وشراء ما يلزمهم منها؛ لكن هذا لا يعني السماح لهم بإقامة وكالات دائمة لهم في الموانئ اليمنية، دون موافقة خطية من السلطان العثماني نفسه.

وترى الدكتوره ابتسام الجرافي في رسالتها للماجستير المعنونة بـ(العلاقات التجارية البريطانية اليمنية) "أن هناك إصراراً لدى الإنجليز على التعامل التجاري مع اليمن؛ الذي يرجع –بلا شك– لأهمية تجارتها، فلم يتوان الإنجليز في إرسال البعثات التجارية الواحدة تلو الأخرى، ويبدو أن هناك محاولة إنجليزية لتغيير الصورة عن الأوروبيين في اليمن، وأنه ليس كل قادم إلى المنطقة برتغالياً، وأن هدف الإنجليز تجارياً بحتاً، إذ إن الإنجليز كانوا تجاراً يهدفون إلى تحقيق مصالحهم التجارية الخاصة، وهذا ما يفسر استمرار شركة الهند الشرقية الإنجليزية في إرسال رحلاتها إلى اليمن.”.
والحقيقة أن السفن التي تقل هؤلاء (التجار) هي سفن حربية أصلاً تحمل مدافع ضخمة وأسلحة حديثة إضافة إلى أن أغلب قادة هذه السفن وبحاريها هم جنود في البحرية البريطانية فكيف يكون الغرض تجارياً بحتاً..

القصف الهولندي للمخا

تغير الموقف العثماني تماماً تجاه البريطانيين بل والهولنديين بشكل عام، فقد استطاع جون ساريس الحصول على فرمان سلطاني من السلطان العثماني عثمان الثاني (1618– 1622م)، والذي تميز عهده بالضعف ومحاولة الباب العالي زيادة إيرادات الخزينة العثمانية بالأموال الكثيرة الناتجة عن حركة التجارة في الموانئ وزيادة خزينتهم الخاصة بسبب الفساد والمحسوبية المستشرية في الدولة العثمانية، وبعد استصدار الفرمان السلطاني والخاص بإنشاء وكالة انجليزية في المخا عام 1618م نجحوا في تأسيس أول وكالة بريطانية ومقر للمندوب البريطاني في ميناء المخا، حيث وصل آندرو شيلنج Andrew Shilling إلى المخا في أبريل عام 1618م، لتحقيق هذا الهدف قادماً من سورات بالهند على متن السفينة آن رويال Royal Anne بأمر من السفير الإنجليزي في البلاط الهندي ورئيس شركة الهند الشرقية الانجليزية بالهند توماس رو Thomas Roe، واستطاع شيلنج الحصول على موافقة الوالي العثماني في صنعاء وكذلك حاكم المخا بناءً على الفرمان السلطاني القاضي بتأسيس الوكالة الإنجليزية في المخا.

تم السماح للإنجليز بالمتاجرة مع أي ميناء يمني آخر، وقدّم حاكم المخا رجب آغا اعتذاراً لشيلنج عما بدر منه في السابق، وأنه كان ينفذ التعليمات الصادرة إليه من الوالي العثماني بصنعاء، وتم تأسيس الوكالة الإنجليزية، والتي أصبحت تشرف على المصالح التجارية لشركة الهند الشرقية الإنجليزية في المخا، وعقدت اتفاقية مع حاكم المخا العثماني، تم فيها تحديد نسبة ضرائب الاستيراد والتصدير بنسبة 3٪، تدفع عيناً أو نقداً، وبأن لا تتوغل السفن الإنجليزية في البحر الأحمر إلى ما بعد المخا، كما تم الاتفاق على أحقية السفن العربية والإسلامية في شحن وتفريغ البضائع في المخا قبل السفن الأوروبية والهندية غير المسلمة.

ومنذ ذلك الحين بدأ الإنجليز في مزاولة نشاطهم التجاري في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر بحرية تامة، وأصبحوا من أهم القوى الأوروبية، التي لها حق المتاجرة حتى ميناء المخا، لكنهم دخلوا في منافسة قوية مع الهولنديين بقيادة شركة الهند الشرقية الهولندية والتي تُعدّ أضخم وأقوى شركة تجارية في العالم في القرن السابع عشر الميلادي.

استطاعت الشركة الهولندية الحصول على فرمان سلطاني من السلطان عثمان الثاني أيضاً في يوليو 1618م بافتتاح وكالة تجارية هولندية بالمخا وهو ما حدث بالفعل في 1620م، لكن حصلوا على تخفيض وصل إلى 2,5 وهو ما أثار حفيظة البريطانيين، ودخلوا في منافسة قوية مع الهولنديين وانتهى هذا التنافس بمقتل الوكيل التجاري الانجليزي على يد القرصان الهولندي هيربرت هيوجو قبطان سفينة Black Eagle (الصقر الأسود)، وأسرع الانجليز بالانسحاب من المخا.

وتقول وثائق تلك المرحلة، إن في ربيع 1662م أحرق الهولنديون “المراكب الشراعية والسفن الكبيرة في مياه المخا وعلى مرأى ومسمع من الحاكم الزيدي الذي لم يحرك ساكناً والمدينة تحت احتلاله، بل إنه هرب مع أول قصف للمدينة مع أفراد عائلته وزبانيته من الزيود المتغطرسين، تاركين المخا للقصف والتدمير والحرق”.

وبعد أن قام هذا القرصان بالنزول إلى المخا نهب ما تبقى من المدينة والقتل، حتى نهب الرعايا البريطانيين، مما حدا بانتوني سميث وكيل شركة الهند الشرقية الانجليزية إلى تصفية المركز التجاري الانجليزي بالمخا وإغلاقه في 1663م.