فهمي الكاشف
لوبي الإمامة وتدمير المبدأ الجمهوري معنوياً بشُبهة "التوريث"!
مطلع الألفية، كان للإمامة في صنعاء لوبي سياسي فاعل ينشط على كل المسارات. وكان هذا اللوبي، إن جاز التعبير، يتظاهر بالحمية على التقليد الجمهوري المعرض للتقويض والانتهاك بواسطة مشروع التوريث. وبالعودة إلى الأجواء التي تصاعدت فيها نبرة الاحتجاج ضد التوريث المحتمل للسلطة، وبمراجعة هوية أكثر الصحف والمنابر التي أولت هذه القضية اهتماماً غير عادي (منها صحيفة الشورى التي كان يصدرها حزب اتحاد القوى الشعبية وهو مكون من مكونات التيار الزيدي الإمامي)، سيتضح أنه بالنسبة لصنف من النقاد والسياسيين المتحدرين من أوساط إمامية هاشمية النسب، فإن إثارة موضوع التوريث كان يصدر، ضمنياً، عن تقليد سياسي "زيدي" يقضي نظرياً برفض التوريث العمودي للسلطة، لكن ليس عن حس جمهوري، بل عن غريزة وراثية من نوع آخر: لأن نظرية الإمامة الهادوية لا تنص على نقل السلطة من الأب إلى الابن، رغم أن هذه القاعدة ظلت، على صعيد الممارسة، منتهكة طوال الوقت منذ الهادي إلى بيت حميد الدين، فقد حدث التوريث للإمامة عدداً كبيراً من المرات.
والتوريث واللاتوريث من المنظور الإمامي الهادوي لا علاقة له بالمنظور الجمهوري. الإمامة، في الأساس، وراثية في نطاق السلالة العلوية الفاطمية من ذرية الهادي الرسي. لكنها، على المستوى النظري فقط، تضع 14 شرطاً لمن يستحق المنصب من هذه الذرية تحديداً.
على أية حال، الغاية التي كان العقل الباطن للمجموعة الإمامية، يأمل في بلوغها تتلخص في تدمير المبدأ الجمهوري معنوياً من خلال صياغة حجج تبرهن على زيفه في الواقع، وهو ما كانت تحتاجه هذه المجموعة لكي ترفع الحرج الأخلاقي وتوفر الغطاء والسند لمشروع إحياء الإمامة الذي كان قد افتتح مساراً جديداً للتمرد المسلح انطلاقاً من مديرية مران في صعدة. بل إن هؤلاء كانوا وقحين بما يكفي ليجادلوا في "المقايل" همساً زاعمين بأن الإمامة تتفوق على الجمهورية من حيث رفضها للتوريث، مع غض الطرف عن حقيقة الإمامة الهادوي وتطبيقاتها التي تغلق الحق في الحكم على سلالة بعينها دوناً عن باقي اليمنيين.
حقق اللوبي الإمامي غايته على أكمل وجه، بمعاونة رهيبة من كتاب ونقاد وقوى سياسية يسارية وقومية وإسلاموية متنافرة في دوافعها وأغراضها. مع مرور الوقت، كان اللوبي الإمامي قد بات جزءاً من إئتلاف عريض يضم أحزاب المعارضة بخلفياتها المتباينة. كان هذا الائتلاف يتبنى خطاباً سياسياً سيء التهجين، وكان صاخباً. كان كل شيء فيه يتمحور حول التنديد المكثف بالتوريث والفساد وقمع الحريات والانحراف عن المسار الصحيح للوحدة مع الجنوب الذي أصبح تصويره ككيان متمايز وكضحية للغدر والإبعاد، طقساً ملازماً لنشاط المعارضة قبل 2011، ثم أضيفت دعوى إقصاء المذهب الزيدي عن المجال الثقافي والديني وحرمانه من ممارسة أنشطته ورفع شعاراته السياسية التي تعبر عن خصوصيته. وهذه الدعوى الحقوقية كانت في صلب نظرة ائتلاف المعارضة للحرب التي بدأت في صعدة عام 2004 مع غض الطرف نهائياً عن المضمون السياسي الحقيقي للتمرد.
وأما موضوع الاعتماد على الأقارب في قمة السلطة في اليمن الجمهوري الشمالي، فالظاهرة لها سوابق قبل تولي الرئيس صالح للحكم عام 1978، نذكر مثلاً الأخوين الحمدي، رغم أنه لم يستمر في السلطة إلا أقل من ثلاث سنوات ولو طال به العهد لتضاعف عدد الأقارب ومواقعهم. وكان أحد أقارب القاضي الإرياني قائداً في الجيش، وهناك الأخوة أبو لحوم ونفوذهم العسكري. ثم استمرت هذه الظاهرة، في اليمن الموحد، في السنوات التالية لخروج صالح وأقاربه من السلطة، فالجميع يعرف النفوذ الذي يمارسه نجل الرئيس هادي ومن غير أن تكون له صفة في هياكل الدولة، وكان شقيق هادي حاكماً أمنياً للمحافظات الجنوبية، والجميع يعرف تعيين الأقارب على جانبي الصراع اليمني "شرعيةً" و"انقلاباً"!
ومع ذلك، لا بد من التنويه إلى أنه، فيما يخص دعوى التوريث، فإن المسؤولية تقع في هذا الجانب على النظام الحاكم برئاسة صالح، لأنه لم يبادر على الفور إلى إزالة المظاهر التي تعطي الانطباع عن توجه فعلي نحو توريث السلطة إلى نجله أحمد، والتي كانت تزود قوى المعارضة، ومنها اللوبي الإمامي، بما يلزم لتعزيز مصداقية خطابها السياسي.
وقد نشير، في وقت لاحق، إلى استفادة مشروع الإمامة من التأثيرات العرضية للحدث التاريخي العظيم المتمثل في قيام الوحدة اليمنية، وهي تأثيرات أدت إلى تغيير جوهري في الأولويات والمخاطر فأصبحت الديمقراطية هي الهدف والمبدأ السامي للشرعية، مع نسيان المبدأ الجمهوري أو التعامل معه وكأنه أمر بديهي. وأمسى الخطر هو العودة إلى التشطير بالنسبة للحكومة، والديكتاتورية بالنسبة للمعارضة، واختفت الإمامة من شاشة المخاطر بعد كانت تحتل الصدارة في الشطر الشمالي إلى لحظة التوقيع على اتفاقية الوحدة عام 1990.