▪نبدأ بهذا المثال البسيط الذي استخدمه المؤرخ مارك بلوخ، أحد رواد مدرسة الحوليات الفرنسية، لتوضيح كيفية تفسير واقعة تاريخية وفقاً لقانون السببية: رجل يسقط من جرف في أحد الجبال. أشياء كثيرة لا بد أن تكون قد حدثت فأدت إلى هذه النتيجة: لا بد أن الرجل انزلق، كان الطريق الذي مشى فيه مبنياً على حافة صخرة جبلية عالية، وقبل هذين السببين هناك أسباب أعمق وأقدم: "عمليات جيولوجية أدت إلى رفع الجبل عن السهل، ثم هناك قانون الجاذبية الذي لولاه لما حدث السقوط، وربما أضاف بلوخ أنه كان لا بد أن يسبق هذا كله الانفجار الكوني العظيم".
ومع ذلك فإن كل من يسأل عن سبب الحادثة سيقال له: "زلة قدم". فالحدث السابق مباشرة لسقوط الرجل من حافة الجبل، كما يوضّح بلوخ، يختلف عن الأحداث الأخرى من أوجه عدة: "فقد ظهر هذا السبب آخراً.. وكان الأكثر استثناء في الترتيب العام للأشياء. وأخيراً وبسبب هذه الخصوصية الاستثنائية بدا أن تفادي هذه الحادثة هي الأسهل في عرف الاحتمالات".
فليس كل من يمشي في هذا الطريق تزل قدمه.. غير أن معرفة السياق العام، أو المجال أو الفضاء الزمني والمكاني الذي وقعت فيه الحادثة، من شأنها أن تبيِّن الفرق في النتائج بين أن تزل قدمك في سهل منخفض أو أن تزل قدمك في منحدر جبلي شاهق. وهذا ما أسماه جون لويس غاديس بـ"السياق" الذي رغم أنه لا يتسبب مباشرة في وقوع الحدث إلا أنه يحدد النتائج المختلفة لحادثتين متشابهتين: زلة قدم على مرج مستو قد تسبب التواء الكاحل في أسوأ الحالات، بينما ينتج عن زلة القدم في حافة جبل عنق مكسور في أحسن الأحوال إن لم يكن وفاة.
يقول جون لويس غاديس "ليس هناك قاعدة تفرض على المؤرخين أن يتوقفوا عند حد معين في تقصي أسباب حدث تاريخي. لكن هناك ما يمكن أن نسمّيه مبدأ تقليص الارتباط: وهو كلما بعد الزمن الذي يفصل سببا عن نتيجة، قَلَّ ما نعزوه من ارتباط إلى هذا السبب".
ويستشهد غاديس في كتابه "المشهد التاريخي، كيف يرسم المؤرخون وقائع الماضي"، بأطروحة لمؤرخ يدعى كلايتون روبرتس تتحدث عن "نقطة اللاعودة"، وهي النقطة التي يتوقف عندها توازن كان قائماً نتيجة للشيء/ الحدث الذي نحاول أن نفسره.
مثلاً، يقول روبرتس إن "نقطة اللاعودة في الحرب الأهلية الانجليزية كانت فرض كتاب صلوات جديد على الكنيسة الاوسكتلدنية عام 1637. ونقطة اللاعودة في الحرب الأمريكية اليابانية كانت تتمثل في حظر البترول على اليابان في أغسطس 1941، أعقبه هجوم بيرل هاربر الشهير بالطائرات اليابانية، الأمر الذي أدى إلى دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية.
▪إذن، ما هي "نقطة اللاعودة" التي أدت إلى سقوط العاصمة صنعاء ومن ثم اشتعال الحرب اليمنية؟
يمكن لمؤرخ أن يعتبر قرار رفع أسعار الوقود أو ما سميت بالجرعة، بمثابة نقطة اللاعودة التي تمخض عنها سقوط صنعاء واندلاع الحرب الشاملة بعد ذلك.
ويمكن لمؤرخ ثانٍ أن يقول بأن "نقطة اللاعودة" هي معركة عمران عام 2014، التي فاز فيها الحوثيون بتآلف أشياء كثيرة محلية وخارجية أحاطت كلها بالمعركة في ذلك الحين وأفضت إلى تلك النتيجة.
ويمكن لمؤرخ ثالث أن يعود إلى الخلف، فيعتبر سقوط حاشد وتفجير منازل بيت الأحمر هي "نقطة اللاعودة". لكن هناك مقدمات وظروف أخرى سابقة لهذه الحوادث أو مزامنة لها.
لكي ننتخب واحداً من بين هذه الحوادث، يحسن بنا الاعتماد على مبدأ تقليص الارتباط بين السبب والنتيجة محل الدراسة، أي المبدأ الذي اقترحه غاديس. إلا أن هناك تأثيراً متبادلاً بين السبب العام (الإصلاح البروتستانتي في هذه الحالة) والسبب الاستثنائي المباشر (فرض كتاب جديد للصلوات).
فكتاب الصلوات الجديد الذي قال روبرتس إنه كان "نقطة اللاعودة" في الحرب الأهلية الانجليزية ما كان له أن يُفرَض لو لم يقع الإصلاح الديني البروتستانتي وما ترتب عليه، والإصلاح البروتستانتي يصنفه غاديس كسبب عام يعتمد عليه السبب الاستثنائي/ الطارئ للحرب الأهلية الانجليزية المتمثل في "فرض كتاب الصلوات على الكنيسة الاسكتلندية". وهنا يأتي دور "مبدأ تقليص الارتباط" بين السبب والنتيجة، فهو الذي "يسوغ لنا التركيز على أهمية بعض المتغيرات أكثر من غيرها".
يشير غاديس إلى قول مارك بلوخ بضرورة البحث عن "السابقة الأسهل تفادياً". أي ذلك الفعل السابق للحدث مباشرة والذي كان من الممكن تجنبه. بحسب بلوخ، فالبحث عن "السابقة الأسهل تفادياً" يتم عن طريق تمرين "جريء للعقل ينقل فيه المؤرخون أنفسهم إلى الزمن السابق على الحدث نفسه ليحسبوا احتمالاته كما بدت ليلة وقوعه".
فيما يخص أحداث 2014 في اليمن، يمكن أن يقال إنه لو لم يأت الهادي الرسي إلى اليمن في القرن الثالث الهجري لما سيطر الحوثيون على صنعاء عام 2014.. وقد يقال أيضاً لو لم يأت الإسلام والنبي محمد لما كان هناك الهادي ولا الزيدية.
ويمكن أن يقال لو يكن في اليمن هضبة عليا وجبال وسهول منخفضة، لما كان هناك قبائل جبليون ولا مركز مهيمن ولا زيود. فمن دون الجبال ما كان ليكون هناك جبليون.
هذه كلها صحيحة، لكنها لا تفسر واقعة مثل واقعة سقوط صنعاء. إنها أسباب عامة، تربطها خيوط باهتة بالحدث من الوجهة التاريخية، كمن يقول إنه لو لم تنبت الجزر اليابانية من البحر في واقعة جيولوجية أثناء تشكل الأرض، لما قامت اليابان بالهجوم على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية. وهذا المثال ساقه غاديس ليشرح مبدأ تقليص الارتباط، وقد أضاف قائلاً: "ارتباط هذه الأسباب بعيد بدرجة تمنعها من أن تكشف لنا شيئاً مهماً".
▪أي الأسباب كان هو الأكثر معقولية والأكثر ارتباطاً بالنتائج: أن يقال، مثلاً، لو لم نكن متمايزين جغرافيا إلى هضبة وسهل لما سيطر الحوثيون على صنعاء أم أن يقال لو لم يسمح الرئيس هادي بسقوط عمران بيد الحوثيين لما سقطت صنعاء؟
أي الأسباب أكثر ارتباطاً بواقعة سقوط صنعاء: هل ثورة 2011 وما ترتب عليها من نتائج أم مجيء الهادي الرسي قبل أكثر من ألف عام إلى صعدة؟
بالطبع لا يحق لنا استبعاد المقدمات البنيوية البعيدة، ولا الأسباب الوسيطة الأبعد زمنياً من الأسباب الفورية للحدث التاريخي. فالأسباب يتأثر بعضها بالبعض الآخر ويتفاعل بعضها ببعض، لكن "كلما بَعُدَ الزمن الذي يفصل سبباً عن نتيجة، قَلَّ ما نعزوه من ارتباطٍ إلى هذا السبب"، كما تقول قاعدة غاديس. المسألة هنا مسألة ترتيب للأسباب من حيث ارتباطها بنتيجة تاريخية ما، وهو ترتيب يقوم على درجة قرب هذه الأسباب من النتيجة محل التفسير، زمانياً ومكانياً وموضوعياً.
ونسترشد أيضاً بنظرية مارك بلوخ عن الأهمية القصوى للفعل/ أو السبب الأخير الذي يسبق الحدث مباشرة، أي ذلك الشيء الذي كان من السهل تفاديه، وبالتالي منع وقوع النتائج الناشئة عنه. مثلاً، كان يمكن لمحافظة عمران أن لا تسقط لو لم يُترَك حميد القشيبي، قائد اللواء 310، مكشوفاً بلا غطاء من شرعية هادي، ولو لم يكن هادي قد أصدر، قبل سنتين من معركة عمران، قراراً بتعيين محافظٍ للمحافظة ينتمي إلى حزب الإصلاح.
أو قد نقول: ما كان لتلك الأحداث مجتمعة أن تقع لو لم يكن الجيش اليمني قد تعرض للاستهداف ابتداءً من ثورة 2011، ثم تفكيكه ضمن ترتيبات متحيّزة في المرحلة الانتقالية... إلخ!
باختصار؛ أشياء كثيرة خاطئة كان يمكن تفاديها قبل 2014، وأشياء أخرى صائبة كان يمكن القيام بها لكي لا نصل إلى لحظة استيلاء الحوثيين على صنعاء. الرئيس هادي هو الذي كان في موقع من يجب عليه، بنص الدستور والمبادرة الخليجية لنقل السلطة، حماية العاصمة ليس فقط بالتصدي عسكرياً للمهاجمين والمتآمرين معهم، بل حمايتها قبل وصول المهاجمين إلى أسوارها بزمن طويل، وذلك من خلال السياسات الصحيحة المتوازنة الحكيمة القوية في نفس الوقت اللائقة بقائد وطني حقيقي.
لكن ماذا بوسعنا أن نفعل تجاه وقائع بعيدة في التاريخ مثل مجيء الهادي الرسي قبل ألف عام، أو كيف يمكن أن إزالة التناقض الطبيعي (اللاتاريخي) في التضاريس وفي التكوين الجيولوجي لليمن بين جبل وسهل؟
كل بلد فيه الجبل وفيه السهل، وكل مجتمع يضم عناصر وظلالاً لها امتداد في ماضيه شبيهة بحالة الهادويين والزياديين والصليحيين والرسوليين والطاهريين... إلخ.
ليس من المحتم على مكونات الماضي البعيد، لبلد ما، أن تنبعث من جديد، إلا في حال توافرت لها حوافز وشروط ومقدمات شبيهة بالحوافز والشروط والمقدمات التي أدت إلى انبعاث شبح الإمامة الهادوية بدماء جديدة أطبقت على صنعاء منذ العام 2014.