لم يكن من العدل أن تُترَك أكاذيب الرئيس اليمني المعترف به دولياً، عبدربه منصور هادي، دون نقض ودون تعرية وتفنيد نهائي. جزء من هذه المهمة تكفَّلتْ به الأحداث في جنوب اليمن، وهي أحداث مأساوية على كل حال لا يطرب لها القلب ولا يتمناها. أمَّا وقد حدث ما حدث، ولم يكن لنا يد في منعه، فمن الحق أن تخضع الحوادث للتأمّل التاريخي والفحص لاستنباط العبر والمعاني.
وإن من أعظم الأكاذيب التي جرى الإيحاء بها وتمريرها، خلال السنوات الخمس الماضية، هي الرواية التي تقول بأن هادي أُطيح به في صنعاء بسبب كونه جنوبياً فقط، وليس لأنه شارك في الإطاحة بنفسه فعلياً، وليس لأنه فاشل ومتآمر وخامل بلا فطنة ولا موهبة، وليس لأنه لم يفعل أي شيء يحول دون إسقاط العاصمة صنعاء والدولة للحوثيين، كما إنه لم يفعل أي شيء للحيلولة دون نبذه وإخراجه من عدن والمحافظات الجنوبية بعد دحر الحوثيين هناك.
لقد استخدم هذا الرئيس الأعجوبة انتماءه الجنوبي عندما كان في صنعاء، لا لشيء إلا لكي يتنصل لاحقاً عن المسؤولية الدستورية والوطنية والأخلاقية حيال المسار المفزع الذي قاد إلى سقوط الشمال والعاصمة في قبضة الإمامة: أنا جنوبي لا حول لي ولا قوة. والجيش جيش عائلي عفاشي، قبلي، زيدي، وأنا بلا جيش ولا أمن!
ها هو يَسقط في عدن المرة تلو المرّة. ها هو يَسقط حتى في عقر داره في أبين، وفي الجنوب عموماً، على الرغم من جنوبيته، لأن عوامل السقوط أكثر وفرة من عوامل الاستمرار. إنه يَسقط هناك باسم الجنوب نفسه، الجنوب الذي أراده ورقة في يده، ورقة متعددة الاستعمال. كان هادي في صنعاء يلوِّح كل لحظة بالمغادرة إلى عدن تعبيراً عن حنقه، كما لو كان رئيس جالية أو سفيراً مفوضاً، وليس رئيساً لليمن، وقد كان يعني حينها، من خلال تلويح كهذا، الإشارة إلى أن بمقدوره لو غادر إلى عدن إصابة الوحدة في مقتل، وهكذا يحرج الشماليين بإظهارهم في وضع من فرَّطوا بالوحدة، لأنهم تجرأوا بإغضاب (الجنوبي) هادي!
كان هادي يتصرف على هذا النحو، وفقاً لوعي طفولي مفاده أن الشماليين مهيَّأين عاطفياً للابتزاز بقضية الوحدة من أول جنوبي يصادفونه، وهذا بالطبع على أساس الاعتقاد الشائع بأن مصلحتهم كشماليين في الوحدة أكبر من الجنوبيين، وبالتالي كان على الشماليين، وشمال الشمال على وجه التحديد، أن يحمدوا للرئيس هادي مجرد وجوده بينهم في صنعاء رئيساً، وألا يطالبونه بأكثر من هذا إن كانوا بالفعل خائفين على نعمة الوحدة!
لكن التاريخ، وفي ضربة من ضرباته النادرة، أبى إلّا أن يكشف أكذوبة هادي ويمرغها التراب. لقد برهنت الوقائع، بشكل كارثي وفاجع، على أن هادي أقل جدارة من أن يكون استهدافه استهدافاً للجنوب، وأقل جدارة من أن يكون استهدافه استهدافاً للوحدة اليمنية أو للجمهورية أو للدولة، وهو أقل جدارة من أن يكون استهدافه استهدافاً للشرعية الدستورية التي أخفق بلا حساب في الاضطلاع بمقتضياتها. لم يرتفع، لا بأفعاله ولا بفكره، إلى مستوى تمثيل أي قضية من هذه القضايا والموضوعات والعناوين.
بالتأكيد عواطفنا وتطلعاتنا سوف تظل تنشد بقاء اليمن موحداً وكبيراً ومزدهراً. لكن من غير المنطقي ومن غير المعقول أن تحتفظ أكذوبة هادي بمقومات الحياة في الشمال وفي الجنوب، لا ينبغي للوهم والسراب الاحتفاظ بالقدرة على تنشيط أشباح الماضي وآفات الحاضر.
مثلما لم تعصمه جنوبيته من السقوط والنبذ في الجنوب، فإن جنوبيته لم تكن هي السبب في سقوطه الأول في صنعاء. في حقيقة الأمر، وبالعودة إلى أجواء العامين أو الثلاثة قبل سقوط صنعاء نهاية 2014، كان هادي يبدو، شيئاً فشيئاً، كمن عقد النية، سلفاً، على أن يكون جنوبياً عند أي شقاق محتمل مع صالح وحزبه أو مع علي محسن الأحمر، وأن يكون حيال جماعة الحوثي "جنوبياً" و"شافعياً" في وقت واحد.
هادي لم يتذكر "الشرعية الدستورية" كقضية يرفعها في المواجهة مع الحوثيين، إلّا بعد سقوط صنعاء، ولم تتردد هذه القضية بشكل متواتر في الخطاب الإعلامي إلا بعد فراره إلى عدن.. أما قبل ذلك، فإن الرجل كان يعتقد أنه في صنعاء مصان ومحروس بكونه جنوبياً.
وقد التقطت هوائيات الحوثيين هذه الإشارات بطريقتهم، وتصرفوا أول الأمر بمقتضاها، فلم يكن إسقاط هادي هدفاً معلناً في تحركاتهم، بل كان الهدف المعلن إسقاط بيت الأحمر ثم حلفاء الإصلاح العسكريين ثم ضرب الإخوان وإسقاط حكومتهم بذريعة رفع أسعار الوقود... الخ، وهكذا!
كانت المعادلة التكتيكية للحوثيين، بعد احتلال صنعاء، لا تتعدى أن يتقاسموا السلطة مع هادي.. هو الجنوبي وهم الشمال! أن يتقاسموها، لكن من موقعهم كمهيمن جديد ووحيد على العاصمة التي أصبحت في وضع الرهينة منذ 21 سبتمبر 2014.
لن نستغرق في التفاصيل. ما يهمنا هو أن جنوبية هادي، كانت في صنعاء درعاً يحتمي به، بالمعنى السلبي طبعاً، أي أن جنوبيته كانت من أهم الأشياء التي أرادها أن تفرض على الجميع مراعاتها.. ولم تكن جنوبيته المجردة هي الباعث المؤدي إلى إطاحته في صنعاء.
كانت جنوبية هادي، إلى جانب القرارات الدولية، أدوات ناجحة لترهيب وابتزاز الرئيس السابق وحزبه. ولعله كان يرهب بجنوبيته أيضاً حزب الإصلاح بشقيه العسكري والمشيخي. أما الحوثيون فقد كانوا هم الطرف الأقل اكتراثاً بجنوبية هادي، لكنهم، كما أسلفنا، لم يتجاهلوها بالكلية في البداية. كانت حساسية الحوثيين تجاه الوحدة أضعف، لقد كانوا بحكم طبيعتهم المليشاوية الجهادية القائمة على التمرد المسلح والغزو، لا يهابون بقية الأمور التي كانت تهابها القوى الأخرى النظامية القانونية.
نتحدث هنا، بيقين، عن الفترة التي سبقت سقوط صنعاء والفترة القليلة اللاحقة لسقوطها إلى لحظة فرار هادي إلى عدن. [يكفي أن نعيد إلى الذاكرة كيف أن الحوثيين اعتبروا الاستقالة التي أعلنها هادي مؤامرة عليهم. بل إنهم تلقوها كما لو كانت عملاً عدائياً يستهدفهم!].