منير اليمني
الانتقال المضحك من الغلو في المثالية إلى الغلو في الواقعية!
▪بصرف النظر عن موقفنا من التطورات المؤلمة في جنوب الوطن، وبصرف النظر عن المشاعر والانفعالات والتحيزات الأخلاقية التي تعترينا تجاه مختلف الفاعلين هناك، محليين وخارجيين، إلا أن تلك الأحداث لن تمنعنا من القول بأن الأصوات الصاخية لبعض المثقفين والناشطين اليمنيين، هذه الأيام، تبدو وكأنها التعبير الكاريكاتوري لكلّ الأشياء، العواطف، الحماسات، التي تأتي متأخرة عن زمنها كثيراً أو متقدّمه عنه بالقَدْر نفسه.
بالنسبة لهؤلاء "النوابغ"، فإنّ نِصَاب الوطنيّة/الشرعيّة الدستورية/ الجمهوريّة، لم يتحقّق (أخيراً) إلّا في شخص أثبتَ، مراراً وتكراراً، أنّه لا يمكن لأيّ نِصَابٍ محترم أن يتحقّق فيه.
وبالنسبة لهؤلاء "الفطاحلة"، فإن نِصَاب الوطنيّة/الشرعيّة الدستورية/ الجمهوريّة، لم يتحقّق (أخيراً) إلا في الوقت الذي بات من المتعذَّر بلوغ هذا النِصاب على مستوى الفضاء الوطني الذي كف عن أن يكون فضاءً واحداً بفعل الحرب!
نقصد هنا قطاعاً عريضاً من الناشطين والكُتَّاب الذين نراهم اليوم وقد استيقظوا لكي يشجبوا -وهذا جيد من حيث المبدأ- كل الظواهر والنزعات والدعوات التي تملَّقوها بالأمس بحماس عارم، ولم ينصرفوا عن تملق هذه الظواهر والنزعات والدعوات إلا وقد أنجزت مهمتها في هدم الدولة وتقطيع أوصالها.
إن مَن كانوا يُنكِرون على الرئيس علي عبدالله صالح شرف وحدويته، ومن كانوا يُنكِرون عليه من منطلق "ثورجي" حقّه في التمسك بشرعيته الدستورية، ومن كانوا يطعنون في مصداقية التزامه المعلن بالنظام الجمهوري، ويلصقون به تهم العمالة والتفريط في السيادة، ها هم يلتمسون من الرئيس الهارب عبدربه منصور هادي "جمهوريةً يمنيةً" يرونها مجسدة فيه ومشروطة به، بعد كل الذي حدث منه وبعد كل الذي حدث له وللجمهورية، وها هم ينقبون فيه عن أثَرٍ من شرعية دستورية، رغم أن هادي لم يدع مخالفة أو انتهاكاً للدستور إلا ووقع فيها، وها هم ينتظرون من هادي وحدةً ويَمَناً لم يخذلهما أحد أكثر مما فعل.
يا لها من نكتة! كم هو مضحك ومخيف هذا الانتقال من الغلو في المثالية إلى الغلو في الواقعية! (بل إن المفارقة المضحكة التي يقع فيها من لا يزال يلتمس تلك الأشياء من هادي، لا تقل عن مفارقة من يلتمس الأشياء نفسها من الحوثي).
وكان يجدر بالمرء، في ظل هذه الظروف، أن يثمن كل نفحة وطنية جامعة أياً يكن مصدرها، وأن يحتفل بعودة "الابن الضال" من الدور السهل للثوري والمحرض المحترف، إلى مقاعد "المحافظين"، التقليديين، الخائفين على وحدة البلاد، والمتحسرين على الدولة وعلى الاستقرار، غير أن ما يجعل مثل هذه العودة المتأخرة ضئيلة القيمة، هو أنها لم تتأسس على نقد ومراجعة فكرية للتجارب والمواقف القديمة بل هي استمرار هزلي لمسيرة الجهل المتعالم الفخور بذاته، استمرار للخطاب "الفظ والخشن الذي يحمل مطالب غير منتظمة وغير معدة بشكل جيد"!
بالنسبة لهؤلاء الوطنيين بعد ضياع الوطن، فإن الحوادث الأخيرة الممتدة من حوادث قبلها، ما زالت تحتفظ بقدرتها على مفاجأتهم وإصابتهم بالقلق على مكتسبات ومبادئ عليا لم يكونوا من قبل يشعرون نحوها بأدنى تعاطف أو حمية.
إن الجدات في البيوت أكثر منهم دراية بما يمكن أن يقع للمجتمعات عندما تنهار الدول. ولعل شاعراً أمريكياً شهيراً كان يتحدث ذات مرة عن هذا النوع من المثقفين عندما قال ساخراً بأن عمته العجوز انتبهت قبل المثقفين الباريسيين بزمنٍ طويل إلى أن الاتحاد السوفييتي وما يسمى بالديموقراطيات الشعبية هي من الرأس حتى أخمص القدمين كلام فارغٌ وأكاذيب.
▪أين ذهب ذلك التشدد القديم في المعايير الأخلاقية والحقوقية، وفي معايير الوطنية وفي النزاهة، ونحن نرى مثقفينا وناشطينا هذه الأيام يمطون أنوفهم بحثاً عن نكهات وطنية يمكن أن تنبعث من أقل بادرة ميدانية لبيادة عسكرية، أو شبه عسكرية، تحرز نصراً صغيراً على رقعة ضيقة وهامشية من البلاد. البيادة التي كانت، قبل أكثر من عقد من الآن، موضع سخط واحتقار ضمن موقف نضالي سنبالغ في إطرائه إذا وصفناه بأنه "ليبرالي" أو "يساري" ثوري، لأنه كان أقرب إلى حالة هجينة من عناصر وتأثيرات متضاربة يجمعها الاعتقاد بأن الجيوش والمؤسسات الأمنية ليست سوى جدران غليظة تقف بين مجتمعاتنا وبين أنوار الديمقراطية والسعادة الحقة، جدران "شيطانية" كانت الفضيلة الموافقة للعصر تقضي بتحطيمها بلا هوادة!
والحال أنه في اليمن، وبفضل مساهمة جسورة من قبل المثقفين وأنصاف المثقفين، لم يتم التقويض المادي للدولة الوطنية المركزية فحسب، بل لقد تم القضاء، كما نلاحظ، على أي إمكانية معنوية/ أخلاقية لإعادة تأسيس دولة يمنية مركزية أو اتحادية لا مركزية، على المدى المنظور.
لقد جرى في اليمن، شمالاً وجنوباً، استهداف أخلاقية الوسائل والسياسات والإجراءات الأولية التي تنشأ وتستمر على أساسها الدول، وتم مقايضتها، قبل نحو عشرة إلى عشرين عاماً، (أولاً) بالأخلاقية الحقوقية الديمقراطية للعالم الغربي المتحضر، ذلك الجزء من العالم الذي لم يعد يعاني من تقلقل نظام الدولة فيه، نظراً لرسوخ التجربة ومرورها بأطوار تاريخية بلغ فيها من النضج والتحديث حدّاً لا تعود معه بحاجة إلى السياسات الاستثنائية لتثبيت أركانها في مراحل التأسيس الطويلة، و(ثانياً) تم مقايضتها بالمبدأ الثوري الأعمى الذي انتقلت عدواه مع موجة ما سمي الربيع العربي.
▪قبل عقد من الآن، تقريباً، كانت الشعارات الحقوقية والمطالب الديمقراطية لحركات المعارضة في اليمن وفي عدد من الدول العربية، بمثابة الظل المحلي لتوجه غربي بدأ في التصاعد عقب انتهاء الحرب الباردة، توجه يقوم على اعتبار حقوق الإنسان والديمقراطية مبدأين عالميين يشكلان الإطار الناظم (المعلن) للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
لقد تغير كل شيء في الوقت الحالي، والسياسة الغربية أخذت تنحو منحى واقعياً أكثر فأكثر. لم تعد شرعة حقوق الإنسان هي الأيديولوجيا الموجهة للسياسة الغربية، ولا الأداة الفعالة لممارسة الضغوط على الحكومات والأنظمة في العالم الثالث، وقد كانت هذه الشرعة أداة لتبرير أعمال كثيرة من بينها التدخل لإطاحة حكومات بدعوى منع انتهاك حقوق الإنسان وفرض الديمقراطية.
بالتدريج، بدأ يتخلق مناخ دولي جديد يميل إلى الاضطراب والشواش والتعدد. لكن هذا التغير وهذا الانحسار في أهمية حقوق الإنسان كمبدأ ضاغط تم تسليطه على الحكومات في دول حديثة النشأة وعاجزة عن استيعاب المعايير الغربية دون أن تغرق في الفوضى المصحوبة بفقدان السيادة، هذا التغير لم يأت إلا بعد أن انهارت دول وتمزقت أوطان، وبرزت على السطح الوحوش والغيلان من بين الركام: أمراء حرب ومليشيات طائفية ومناطقية، وسجون سرية، وانتهاكات فظيعة، وأعمال عنف ينخرط فيها حتى أولئك القيادات والأفراد والجماعات الذين استفادوا من الغطاء الذي وفرته السياسة الحقوقية الغربية قبل سنوات في تحركاتهم لإسقاط الأنظمة باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان!
إذن، هل المطلوب من المثقفين والناشطين، المشار إليهم في مطلع المقال، أن يستأنفوا مسارهم القديم في تملق ومباركة الظواهر والدعوات والنزعات التي تملقوها (بالأمس)، أو التي قللوا من شأنها، ثم عادوا (اليوم) ليشجبوها ويناهضوها بعد أن أصابت الوطن في مقتل، وبعد أن تضخمت واستقوت ونشرت الخراب؟
هل يجب عليهم، باسم الاتساق واللاتناقض، الاستمرار في الضلال والخطأ؟
لا. على الإطلاق لم نقصد هذا.
فقط سيكون من المناسب الاعتراف بأنهم يباركون (اليوم) الحد الأدنى من وطنية، ومن صواب، ومن حماسة، ومن نزعة وحدوية.. أي الحد الأدنى من أشياء أنكروا (بالأمس) وجودها، وبخسوا قدرها، عندما كانت في حدها الأعلى.
من المناسب فقط الاعتراف بأنهم يلهثون (اليوم) للحصول على أقل القليل من أشياء، ومن ممارسات عامة جيدة، ومن أوضاع، ومن عواطف، ومن قيم وطنية، كانوا (بالأمس) يعرضون عن كثيرها ويحطون من شأنه!