د. صادق القاضي
بين (21 و26 سبتمبر).. خمسة آلاف سنة حضارة!
عندما زار الزعيم "جمال عبد الناصر" مدينة تعز عام 1964م، سأل جندياً شاباً من المصطفين لاستقباله: كم عمرك يا ابني؟
أجاب الجندي بثقة: عامان.. هما عمر الثورة.
يؤكد البردوني: "لم يكن لليمنِ وجودٌ قبل ثورة سبتمبر. إن عمرَ اليَمَنِ هو عمر الثورة"، مشيراً إلى القيمة الوجودية الانبعاثية لثورة سبتمبر، كفاتحة لتحولات جذرية شاملة على مختلف جوانب الحياة، وإحدى أهم الطفرات الحضارية العظيمة في تاريخ اليمن على الإطلاق.
بهذا المعنى: 26 سبتمبر ليس مجرد ذكرى سنوية لمجرد مناسبة سياسية.. بل هو بجدارة شفرة رمزية لتاريخ ميلاد اليمن الحديث.
• بين 26 سبتمبر و 21 سبتمبر:
21 سبتمبر هو الآخر أكثر من مجرد ذكرى لمجرد انقلاب. وإلا لهانت المشكلة، الانقلاب السياسي بحد ذاته ليس مشكلة وجودية في بلدٍ ظل الأصل فيه للأسف هو التبادل الانقلابي للسلطة.
الحوثي ليس أول من انقلب على السلطة في اليمن، لكنه أول من انقلب على الشعب. انقلب عليه ككيانات اجتماعية، ومكونات عقائدية، وتنوعات عرقية، وأحزاب سياسية، ومنظمات مدنية، ومؤسسات تمثيلية..
انقلب على السلطة والمعارضة، على الإجماع الوطني ككل، لا على النخبة الحاكمة فحسب، وعلى شرعية النظام السياسي الثابت، وليس فقط على الشرعية التمثيلية العابرة.
الانقلاب الحوثي أشبه بتسونامي عارم عصف بكل جوانب الحياة في اليمن، وإذا كان هذا يجعله بجانب 26 سبتمبر، كتغيير نوعي عميق وشامل.. إلا أن الخلفيات والمنطلقات والتجليات.. مختلفة للغاية.. بين 26 سبتمبر، و21 سبتمبر.. 5 خمسة آلاف سنة حضارة.
• من أين عاد الإمام؟!
لا شك. تعرضت "التجربة الجمهورية" في اليمن، منذ البداية، لكثير من الانتكاسات والاختلالات وأوجه القصور التي نخرتها من الداخل، وتسببت بهشاتها وانحدارها التدريجي.. وصولاً إلى سقوطها عملياً عام"2014م" على يد "الجماعة الحوثية".
"الجماعة الحوثية" في هذا المقام، هي النقيض المتربص الذي استفاد من كل تلك الأخطاء والخطايا التراكمية ليفرض نفسه، على الواقع اليمني، لا كبديل ناجح لنظام فاشل، بل كأسوأ ما يترتب على الفشل من عقاب.
بعبارة أخرى "الانقلاب الحوثي" لم يكن مبادرة نزيهة لإصلاح حالة مختلة، بل محاولة انتهازية لركوب الاختلالات النسبية عودة إلى النظام الإمامي، في ظل حقيقة أن "التجربة الجمهورية" في أسوأ حالاتها كانت أنجح من "النظام الإمامي" في أفضل حالاته.
• الحوثي والجمهورية الإمامية:
لا معنى لـ"الجمهورية الإمامية". فالنظام "الجمهوري" والنظام "الإمامي" نظامان متضادان سياسياً وأيديولوجياً، ومتناقضان في المرجعيات والتصورات والتجليات والممارسات والتوجهات..
بمعنى أنهما بحكم "المتنافيين" (الحالين الذين لا يمكن الجمع بينهما)، وإن كان النظام الحوثي، كنموذج لـ"التقية" والبرجماتية الذرائعية، اتسع للجمع بينهما، بحرصه -حتى الآن على الأقل- على الشكل الجمهوري لمضمونه الإمامي..!
قد لا يستمر هذا طويلاً، كتكتيك مؤقت للإجهاز تحت العلم الجمهوري على ما تبقى من النظام الجمهوري، لصالح النظام الإمامي الذي تشكل الظاهرة الحوثية امتداده الموضوعي.
لكن الأمر قد يكون استراتيجية طويلة المدى لنظام إمامي جمهوري.. على غرار الإمامة الجمهورية في إيران.
في هذه الحالة سنكون أمام نظام توفيقي تلفيقي "فرانكشتايني".. هو بكل المقاييس أكثر رداءة وانحطاطاً من النظام الإمامي نفسه.
وفي الحالتين نحن أمام أيديولوجية مناقضة للديمقراطية، ونظام معادٍ للنظام الجمهوري، ولا يمكنه في أحسن الأحوال القبول بالديمقراطية، إلا كهامش، ولا النظام الجمهوري إلا كقناع.