أشهر اغتيال في التاريخ، اغتيال يوليوس قيصر، وأغرب اغتيال هو اغتيال إبراهيم الحمدي، بالأحرى أغرب انقلاب، لأن التاريخ حافل بالولائم التي تتحول إلى مذابح.
وكنت أرى مشابهات بين اغتيال يوليوس قيصر، امبراطور روما، واغتيال رئيس اليمن إبراهيم الحمدي.
حذر العراف يوليوس قيصر من الخروج يوم الأربعاء، وحذرته زوجته بتأثير بحلم مزعج، فلم يصدع، وتلقى إبراهيم الحمدي تحذيرات من خيانة نائبه أحمد الغشمي، ولم يسمع.
عندما انهالت الطعنات على يوليوس قيصر، التفت، ووقع بصره على بروتس، فقال: “حتى أنت يا بروتس. إذن ليمت قيصر”. ولما رأى إبراهيم الحمدي أخاه فوق بركة الدم، قال: “عملتها يا أحمد!”.
لم يكن بروتس متحمساً لاغتيال القيصر، لكن إلحاح كاسيوس أنهى تردده. وفي اليمن كان هناك كاسيوس. وكانت المأدبة التي أقامها الغشمي في منزله المكون من فيلتين، على شرف عبدالسلام مقبل، الوزير المعين حديثاً لأول مرة، وإليها دعي كل صفوة القوم. وقبل أن تقدم الأطباق، أخذ المضيف عبدالله الحمدي إلى الفيلا المجاورة، وتمت تصفيته. ثم جاء الرئيس، بعد اتصال ملح من الغشمي، وصفي هو الآخر. بعدها نُقلت الجثتان إلى منزل مستأجر، جرى فيه قتل فتاتين فرنسيتين، ليكتمل المشهد بـ4 جثث عاريات، شاهدات على الفاحشة. والذين جاؤوا إلى المكان، لاحظوا أن دماء الفتاتين مرشوشةً في الأرجاء، بينما التصقت جثتا الرئيس وأخيه بدم قليل متخثر. لكن طبيباً حديث التخرج سوف يكتب التقرير الطبي، وفق رغبة القاتلين. وكوفئ الطبيب، وعُين وزيراً في أول تعديل أجراه الغشمي على حكومة عبدالعزيز عبدالغني. والفتاتان استقدمتا بنظر القنصل في السفارة اليمنية بباريس، محمد عبدالله الشامي، وبمعرفة المخابرات الفرنسية التي أرسلتهما إلى اليمن، في مهمة سوف تبين لهما هناك، كما أخبرهما الضابط المسؤول. أما الشامي فقد أكمل سيرته الوظيفية بفضيحة ارتكبها عندما كان سفيراً في بغداد، حيث دبر عملية سرقة للسفارة، أوكل مهمتها لسائقه وشخص آخر، وتسبب بإعدامهما من قبل السلطات القضائية العراقية. لقد طرد السفير، وأرسلت وثائق التحقيق في الشرطة والنيابة العراقيتين، إلى وزارة الخارجية اليمنية، وأتيح لي أن أحصل على صورة منها، فنشرتها في جريدة “الوحدوي”، في تحقيق بعنوان “يحدث في سفاراتنا الآن”.
بعد الوليمة، انتقل الغشمي إلى مقر القيادة العامة. ولم يكن بحاجة لإرسال قوة لاحتلالها، ولا لاحتلال الإذاعة، إذ هما في حراسة اللواء الأول مدرع الذي يرأسه بنفسه.
هناك في القيادة، سوف يدير المراحل المتبقية من خطة الانقلاب. وقد بادر لاستدعاء الرائد علي قناف زهرة، قائد اللواء السابع مدرع، والرائد عبدالله الشمسي، قائد المنطقة الوسطى، وقائد قوة الصواريخ، وتم اعتقالهما، في عملية غدر، وإرسالهما إلى غرفة ملحقة بمنزل الغشمي، في قريته “ضلاع”، حيث أقيمت جدران من الإسمنت على بابها والنوافذ، حتى يموتا اختناقاً. وفي تلك الساعات كان محمد السنباني، نائب علي قناف، وأركان حربه، يجلس على مكتبه في قيادة اللواء السابع. ولسوف يتولى قيادة اللواء بعد نجاح الانقلاب، ثم يتنقل في مواقع عسكرية مختلفة، إلى أن يتقاعد، ثم ينتهي مقتولاً مع كافة أفراد أسرته بضربة نفذها طيران التحالف على منزله.
قبل منتصف الليل، أعلن البيان المعروف عن أيادٍ آثمة. وهنا الوجه الغريب وغير المألوف في الانقلابات. ذلك أنهم لم يمتلكوا الجرأة على مصارحة الشعب أنهم نفذوا انقلاباً دموياً. وقبله فما كان بمقدورهم أبداً أن ينفذوا انقلاباً بالطرق التقليدية، إذ كان من سابع المستحيلات أن تتحرك وحدات الجيش بأوامر صريحة للقيام بانقلاب أبيض أو أحمر، لأن الجيش كله كان يدين بالولاء لإبراهيم الحمدي. لهذا لجأوا للأسلوب الغريب والخسيس. ولقد أخذت المفاجأة قادة الألوية العسكرية، فأصيبوا بالشلل. ولو أن بينهم قائداً محنكاً، لاستطاع أن يجري اتصالات، ويحركهم جميعاً لإفشال الانقلاب. حتى اللواء السادس مدرع كان بالإمكان دفع قادة الكتائب إلى اعتقال السنباني، وتوجيه اللواء كله للتعاون مع بقية وحدات الجيش، من أجل التصدي للانقلاب.
وكانت قوات العمالقة وحدها قادرة على أن تشق الطريق من ذمار إلى صنعاء، وتتولى وحدها هزيمة الانقلابين.
صحيح أن هذا ما كان يعيد الحمدي إلى الحياة، ولكنه كفيل بالحفاظ على التوجه الوطني بقيادة جماعية تتعاون مع القوة الوطنية، خصوصاً تلك التي أقامت صلات مع بعض ضباط الجيش خلال فترة الحمدي.
تبقى ملاحظات تسجل على الحمدي نفسه.
الأولى: أنه عندما عين الغشمي رئيساً للأركان، لم يعزله من قيادة اللواء الأول مدرع، بل أبقى عليه، وأطلق يده، وسكت على ما كان يراه من إنفاق يشتري به الولاءات. لقد أزاح بسلاسة مراكز القوى التقليدية المهيمنة والجبارة، وسمح بنمو مركز قوة تضخم على نحو غريب.
والحمدي كان يعرف أن الغشمي غدار، فقبل إزاحة أولاد أبو لحوم، اقترح على الحمدي أن يدعوهم إلى الغداء في “ضلاع”، وينتهي الأمر، ورفض الحمدي.
الثانية: أنه وافق ببراءة على تلبية دعوة وجهت إليه في اللحظات الأخيرة، إلى مأدبة دعي لها كبار رجال الدولة، كما لو أن الغشمي يأخذ شخصاً عابراً في الطريق. والطبيعي أن الرئيس هو أول من يدعى إلى عزومة بهذا المستوى.
الثالثة: أن عيون الحمدي لم تكن مغمضة فقط، بل كانت تتجسس عليه، إذ لم يكن محمد خميس بعيداً عن المؤامرة، مع ذلك، فإن سيرته لا تأتي، واسمه لا يرد.
رابعاً: أن الحمدي كان مستهتراً بحياته، فإن بساطته ومخاطرته بالسير بسيارته وحيداً، يحسب عليه، ولا يحسب له. إنه، وهو المثقف والسياسي الداهية، كان يدرك أنه يحمل مشروعاً كبيراً، وأن حياته ملك للشعب، وليست ملكاً له وحده.
مع ذلك، ورغم التحذيرات، فقد مات قيصر.
*نقلاً عن موقع "المشاهد"