حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

المشهد السياسي في المنطقة باختصار

Sunday 22 March 2020 الساعة 01:35 pm

قبل أسابيع، تناقَل ناشطون ووسائل إعلام مقطع فيديو يظهر فيه معتمرون أتراك يهتفون في الحرم المكي: "بالروح بالدم نفديك يا أقصى". في ظرف آخر، وتوقيت آخر، ما كان لعمل كهذا أن يسترعي الاهتمام.

تستمد هذه الحادثة دلالتها أولاً من كون الرجال الذين رددوا الهتافات أتراك، وثانياً لأن علاقة تركيا والسعودية في أسوأ حالاتها، وثالثاً الحادثة جاءت بعد نحو أسبوعين من إعلان الرئيس الأمريكي ترامب ما تسمّى "صفقة القرن" المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

الهتاف لـ"الأقصى" وفلسطين في الحرم المكّي، أكثر الأماكن حساسية، هو بلا شك عمل سياسي موجَّه ضد السعودية وليس إسرائيل. والرسالة من عمل كهذا تفيد اللمز والتعريض بالموقف السعودي من القضية الفلسطينية أمام الشعوب الإسلامية. وحتى لو كان الهتاف ارتجالا غير مدبَّر، وهذا مستبعَد، فإنه لن يُقرأ خارج المناخ السياسي السائد في المنطقة.

الحادثة حتماً تستدعي إلى الذاكرة ما تمثله الامبراطورية العثمانية في التاريخ بالنسبة للدولة السعودية التي تأسَّست في مراحلها الثلاث عبر التناقض والصراع مع أسلاف أردوغان.

كما تستدعي إلى الذاكرة هتافات وتجمّعات أنصار الخميني في عدد من مواسم الحج في مكة، وذلك نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي. وهو ما قد يشير إلى أن أردوغان يقتبس بعض خطواته من التجربة الإسلامية الإيرانية.

وبنظرة كلِّية على المشهد، يمكن أن نتبيّن بوضوح الخطوط العريضة لصراع إقليمي ثلاثي الأطراف، حيث كل طرف يدافع عن أهدافه ومصالحه بشكل مستقل عن الطرف الآخر: السعودية ومعها الإمارات وعدد من الدول الحليفة، إيران ومعها محورها المعروف باسم محور "المقاومة"، والطرف الثالث تركيا الأردوغانية ومعها قطر وعدد من جماعات الإسلام السياسي "السني".

من هذا المنطلق نستطيع فهم الكثير من السياسات السعودية في الوقت الحالي. فالرياض، مثلاً، تبدو وكأنّها تشتري من "الغرب" سلامتها ودوام حظوتها لديه، وذلك من خلال:
1) تشجيع إسلام معتدل داخل المملكة، وتضييق الخناق على الجماعات المتطرفة.
2) ملاطفة اسرائيل وتبادل الإشارات الودية معها.

أيضاً، السعودية تشتري سلامتها حيال الخطر المتمثِّل في محور (تركيا وقطر والإخوان)، من خلال مواصلة تصعيد موقفها من إيران ومحورها (الإقليمي)، التصعيد الذي وضع المملكة، ضمنيّاً، في معادلة صراع تمثل فيها دور القوة الحامية لـ"السُنَّة" مقابل إيران التي ظهرت شيئا فشيئا في دور القوة الحامية لـ"الشيعة".

هذا يعني أنّ السعودية في مواجهتها مع إيران، لم تعد تشتري السلامة من خطر نظام طهران فحسب بل ومن خطر نظام أنقرة الإسلامي معاً!

لنأتِ الآن إلى المزيد من التفصيل:
- عداوة السعودية مع المحور الإيراني تمثِّل نقطة لصالحها في صراعها الآخر الموازي مع المحور الجديد (التركي القَطَري الإخواني)، الذي يَظهَر متراخياً ومتهاوناً تجاه أنشطة محور إيران ("الشيعي" "الفارسي"، من وجهة نظر المحور السعودي).

- تصعيد السعودية، ومعها الإمارات، ضد تركيا (الأردواغانية) وجماعات الاسلام السياسي (السُنِّي)، يأتي متزامنا مع تحقيق درجة هائلة من الانفتاح الاجتماعي والثقافي داخل المملكة، مضافا إلى ذلك مؤشرات التقارب الخفي مع إسرائيل. وهي مسارات تاريخية تحمل نسبا متعادلة من الفرص والمخاطر. أما الفرص، فإن أهم مكسب مباشر تجنيه السعودية من هذه المسارات مجتمعة، هو تحسين صورتها لدى الغرب الذي شهد في السنوات الماضية موجة من الأصوات المؤثرة على الرأي العام التي تطرح خطابا سياسيا يربط بين السعودية و"الإرهاب".

أما المخاطر والارتدادات، فأهمها:
تَشكُّل ملحوظ لـ "نَسَق" سياسي معارض قوي في المنطقة -برعاية تركية قطرية- يتألف من جماعات الاسلام السياسي (الإخوان المسلمين وربما تنظيم القاعدة)، وكذلك من التيار السلفي السعودي الذي يشعر أنه تعرض للاقصاء والتهميش من المؤسسة الدينية الرسمية.

الواقعين ضمن هذا النسق يمارسون تعبئة مضادة للنظام السعودي بدعوى التفريط في الاسلام وإفساد المجتمع المحافظ، وخيانة القضية الفلسطينة والقدس، والعمالة للغرب...الخ. هذا النمط من الخطاب هو نفسه الذي لا يزال قيد الاستعمال من جانب المحور الإيراني في صراعه مع السعودية منذ عقود. من جانب المحور (التركي القَطَري الأخواني)، يضاف إلى بنية الخطاب الموجَّه ضد السعودية، عنصر آخر هو: "الديمقراطية وحقوق الانسان"، وهذا العنصر يلتقي مع المزاج المعادي للسعودية في الغرب.

بالنسبة لإيران (الخمينية)، فالاستثمار في قضية فلسطين و"المقاومة"، استطاع، طوال أربعين عاما، أن يُؤمِّن لها نفوذا سياسيا مضمونا في أوساط الشيعة العرب.

تركيا (الأردوغانية) تحاول التقاسم مع السعودية في موضوع تمثيل "السُنَّة"، لكنها تفعل ذلك بحذر بالغ من دون المجاهرة بالعداء مع إيران.

وبنفس الحذر، تحاول تركيا أن تتقاسم مع إيران فوائد النبرة الخطابية الحادة ضد اسرائيل، لكن مع احتفاظ أنقرة بعلاقة دبلوماسية قديمة مع تل أبيب. العلاقة الدبلوماسية التركية مع اسرائيل، تخفِّف من قدرة الخطاب الأردوغاني على إحراج السعودية في هذا الموضوع. فالسعودية ستقول للمتأثرين المحتملين بخطاب أردوغان، بأنها لم تصل ملاطفاتها واتصالاتها باسرائيل إلى حد التبادل الدبلوماسي القائم بين تركيا واسرائيل.

تركيا الأردوغانية تبدو أقل حسما وجذرية في كل مواقفها تقريباً. هناك القليل من كل شيء: القليل من الإسلام السياسي، والقليل من العلمانية، والقليل من الحدة ضد اسرائيل، والقليل من التناقض مع إيران، خطوة نحو الغرب وخطوة نحو الشرق.

بالمقارنة مع تركيا، تظهر إيران أكثر جدية وأكثر وضوحا في قطيعتها مع اسرائيل، بل وتعمل على تمويل ورعاية جماعات وتنظيمات ترفع شعار "المقاومة" كهدف أسَّستْ عليه وجودها.

وبالمقارنة مع تركيا، تظهر السعودية أكثر جدية وأكثر وضوحا في قطيعتها وفي نزالها مع إيران ومحورها الإقليمي.

بيد أن السعودية، فيما يخص العلاقة بإسرائيل، تقف في حالة من التذبذب المزمن. على المستوى الرسمي، لا تزال الرياض تتهيَّب المضي إلى النهاية باعتراف وتمثيل دبلوماسي معلن، كما فعل الرئيس المصري الراحل أنور السادات.

رغم كل الاشارات الودية المتبادلة مع اسرائيل، ورغم التسريبات عن اتصالات ولقاءات بين مسؤولين سعوديين واسرائيليين، لا تزال هذه المسألة بالنسبة للرياض مصدر حَرَج من نوع ديني.

يمكن الإحساس بخوف السعوديين من استغلال اعدائهم لأي اعتراف كامل باسرائيل. تركيا، إيران، الاسلاميون السنَّة، أعداء خطرون وعلى أتم الجاهزية لتوظيف كلّ شيء ضد السعودية وإحراجها به وتهديد وجودها.

ولو أنّ السعودية اتخذت موقف العداء الصريح من اسرائيل، وتصدَّرتْ هذا الموقف، لاتخذ هؤلاء الموقف المعاكس. في الحقيقة، ما زال الموقف من اسرائيل واحدا من أهم المواضيع التي تشكل مادة السياسة في المنطقة على مدى سبعة عقود.

وهو من تلك المواضيع القابلة للاستخدام السياسي المزدوج أو المتعدِّد أحياناً، فإذا استخدم عدوك وجهاً واحداً من الموضوع، فأنت ستختبر حظوظك في الوجه الثاني من الموضوع نفسه. مثلاً، يكسب عدوك من الصداقة مع اسرائيل، إذن عليك أن تطلب الكسب في العداء لاسرائيل.