حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

خلاصات عن ربيع 2011: تحرير كلمة "ثورة" من الهالة الأخلاقية

Wednesday 25 March 2020 الساعة 07:25 pm

▪بالنسبة للناطقين باللغة العربية، تُعْتَبَر كلمة "ثورة" من الكلمات الكبيرة التي شُحِنتْ في الاستخدام العام، بدلالات أخلاقية إيجابية، لا سيما في العصور الحديثة.

فما إن يُطلق على فعل، أو حدث، اسم "ثورة"، حتى تصبح التسمية وكأنها صورة مسبقة من صور الشرعنة لذلك الفعل أو الحدث مهما كانت فرصه للنجاح ضعيفة، ومهما كانت أهدافه غريبة أو نتائجه مدمِّرة.

لقد تمّ تجريد الكلمة من حيادها الأخلاقي المفترض. وقد رأينا، في العام 2011، كيف أن كثيراً من الناس ما كانوا ليخرجوا إلى الشوارع ‏لو لم يكونوا مأخوذين بالسحر التاريخي الذي أُضيف فجأة إلى الاحتجاجات منذ اللحظة التي أصبحت فيها -تلك الاحتجاجات- تُدعَى بـ"الثورات". ولا تزال كلمة "ثائر" تستعمل كصفة على سبيل الثناء والاستحسان، وهو ما جعل من اللقب "ثائر" مَطمَعاً يلهث البعض لحيازته!

ونظراً لعدم وجود مرجع أو قانون معياري صارم يمكن الاحتكام إليه للتفريق المُلْزِم -أخلاقياً وسياسياً ومعرفياً- بين ما هو "ثورة" وما هو غير ذلك، وتحديد متى وكيف وأين تكون الثورة ثورة حَقَّة، ومتى وكيف وأين تكون الثورة باطلة وزائفة، فإن مجرد استعمال كلمة "ثورة" ومشتقاتها لتسمية حدث أو مجموعة حوادث، لا يكفي للإقناع بالقيمة السامية لذلك الحدث من الناحية الأخلاقية والوطنية. ولا شيء يمنع أي شخص وأي فئة من أن يطلقوا على فعل من أفعالهم اسم "ثورة" وأن يتصفوا بصفات الثائرين.

والحقيقة أن المرء لا يستطيع أن يرفض الثورات جميعها رفضاً غير مشروطٍ في كل زمان ومكان، ولا أن يوافق عليها جميعها موافقة غير مشروطة في كل زمان ومكان. والقصد هنا جميع الوقائع والأفعال التي يصطلح الناس على تسميتها بـ"الثورات". يتعلق الأمر أحياناً بالموقع الذي نعاين منه الأحداث ونتفحصها ونقرر موقفنا منها.

وقد يبدأ المرء مهمّته بثورة صغيرة لتحرير كلمة "ثورة" نفسها من هالتها الأخلاقية المتراكمة بفعل الاستعمالات المنحرفة، إلى أن تغدو الكلمة ناصعة، نظيفة تماماً، بحيث يمكن الإشارة بها إلى الواقعة دون أن يعني ذلك لا شجباً ولا حفاوة.

▪إذا أردنا الأخذ بالمنطق التوفيقي، فسوف نخرج بخلاصة كهذه:

ما حدث في العام 2011 هو أن "النظام" لم يستطع أن يكون "نظاماً" كما ينبغي بحيث يسحق الثورة ويحمي وجوده، و"الثورة" لم تستطع أن تكون "ثورة" كما ينبغي بحيث تسحق النظام وتقيم سلطتها.

بعبارة أخرى أدق:

النظام" لم يكن قادراً -لأسباب كثيرة داخلية وخارجية- أن يتصرف كما ينبغي للأنظمة أن تتصرف في مثل هذه الحالات بحيث يتمكن من سحق -أو احتواء- الثورة وتأمين وجوده، و"الثورة" لم تكن قادرة هي الأخرى لأسباب كثيرة -ذاتية وموضوعية- أن تتصرف كما ينبغي للثورات أن تفعل في مثل هذه الحالات بحيث تسحق النظام وتقيم سلطتها على أنقاضه.

كان هناك فقط العجز والفشل المتكافىء.

حسناً.. الآن انتهت "الثورة" وانتهى "النظام".

وإنّ من أغرب ما لاحظناه، في السنوات الماضية، هو أن الثوار حاقدون على النظام، بل ويحمِّلونه مسؤولية فشل ثورتهم، وكأنّ من مهمام النظام إنجاح الثورات التي تقوم ضده!

وأنصار النظام، من جانبهم، حاقدون على الثوار بل ويحمِّلونهم مسؤولية إفشال النظام، وكأنّ من مهام الثورات حماية الأنظمة التي قامت الثورات ضدها!

▪في الوقت الحالي، لعل أكثر ما يزعج القوى المتعددة التي تتقاسم السيطرة على اليمن، هو أن الناس يجعلون من فترة حكم الرئيس صالح "نقطة مرجعية" في تقييم الأمور الراهنة في البلاد. والقياس إلى فترة حكم صالح لا يأتي بنتائج مفرحة لأي من الأطراف المستفيدة من الانهيار.

بالطبع، من غير الممكن أن لا يحتكم الناس إلى المرجعيات، المعايير، الأسس، المبادئ، الاعتبارات، التي تم بناءً عليها إعلان المواقف السياسية والثورية ضد نظام الرئيس صالح، والتي بناءً عليها جرى ويجري تقييم فترة حكمه.

المرجعيات بأنواعها: التاريخية، القانونية، والمعرفية، والسياسية، والاقتصادية. المعايير بأنواعها: الحقوقية، والديمقراطية، والتنموية. الاعتبارات بأنواعها: الوطنية، والثقافية، والأخلاقية.

تستطيع أي قوة معارضة أن تتخذ من حاضر أي بلد متقدم أو ديمقراطي ومزدهر "نقطة مرجعية" لإظهار صورة قاتمة عن الوضع القائم. والسلطة ستواجه هذا الخطاب بتقييم مغاير يتخذ من ماضي البلاد القاتم "نقطة مرجعية" لإبراز أهمية ما حققته هذه السلطة مقارنة بما كان عليه الحال.

أما سلطات الأمر الواقع المنتشرة في طول البلاد وعرضها، فإنها حتى هذه اللحظة لا تصمد ليس أمام المقارنات والقياسات مع الدول المتحضرة فحسب، بل حتى أمام الماضي القريب السابق للعام 2011.