د. عيدروس نصر
همس اليراع د. محمد المسفر.. حينما يفتقد الأكاديمي أكاديميته
تابعت باهتمام اللقاء الذي أجرته قناة بلقيس مع الدكتور محمد المسفر أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر، ويعود سبب اهتمامي هذا لمعرفتي بالدكتور المسفر ومواقفه ورؤاه الفكرية والسياسية وعلاقتنا الشخصية التي قامت على مشاركتنا الكثير من الفعاليات الفكرية أثناء وجودي في الدوحة واستضافاته لي ولعدد من الناشطين الجنوبيين في منزله وسلوكه الراقي معنا ونقاشاتنا المفتوحة واتفاقنا في معظم الأفكار بما في ذلك آراؤه المتقدمة حينها حول القضية الجنوبية وخلفياتها ومشروعيتها.
لن أتطرق إلى كل القضايا التي تناولها في حديثه مع مدير قناة بلقيس على مدار حوالي خمسين دقيقة، وقد أتفق معه في الكثير مما ورد في حديثه، فقد حافظ في كثير منها على أسلوبه الأكاديمي مع دفاعه الملحوظ على مواقف دولة قطر في كثير من القضايا وهذا أمر مفهوم باعتباره مواطنا وأكاديميا في الدولة التي يتبنى سياستها ويدافع عنها، لكنني سأتوقف عند رده على سؤال مدير القناة عن آفاق حل الأزمة في اليمن؟
في بداية رده على هذا السؤال حافظ الدكتور المسفر على نهجه الأكاديمي وبدأ يتحدث عن ثلاثة مرتكزات للخروج من الأزمة لكنه توقف عن هذه المرتكزات واكتفى بالإشارة إلى المرتكز الأول وهو "إرادة الشعب اليمني" وهنا أكد على عدم المتاجرة بإرادة الشعب من أجل كسب المال، ثم انتقل إلى مسرحٍ آخر لا علاقة له لا بالمرتكز الأول ولا ببقية المرتكزات التي نسي الحديث عنها، بل حول كل حديثه في هذه النقطة إلى محاكمة للشعب الجنوبي وتسديد سهام الاتهام إلى تاريخه ومحاولة إدانته بما لا علاقة له به من اتهامات معظمها من صنعه.
يقول الدكتور المسفر إن الجنوبيين حاربوا الحركة القومية "وقُتِلَ منهم مئات الآلاف" (هكذا حرفياً "مئات الآلاف" يقول الدكتور المسفر) وحاربوا الفكر اليساري "وقتل منهم المئات إن لم يكن الآلاف" ولم يفوت الحديث عن تقاتل الجنوبيين قبل الوحدة، وأضاف من عنده أن الجنوبيين تقاتلوا بعد الوحدة، ليصل إلى الخلاصة "إذن هؤلاء الناس في صراعٍ مستمر مع أي حركة تقوم في اليمن من أجل الوصول إلى السلطة والهيمنة" وهنا يتوقف عن الحديث عن الثلاثة المرتكزات وينتقل إلى قصة مد اليد لتلقي المال من الخارج، وينسى كل التعقيدات والحروب والانقلابات الشمالية وسياسات النهب والاستحواذ والهيمنة الداخلية والاضطرابات والانقسامات الأفقية والرأسية التي تعيشها اليمن ويحصر كل الشرور في الجنوب والجنوبيين.
عندما يتحدث باحث أكاديمي عن شعب كامل بأن هذه هي صفاته فإنه ينقض كل ادعاء بالأكاديمية والعلمية والحيادية ويتقمص شخصية شيخ القبيلة المتعجرف أو زعيم الجماعة الجهادية المتشددة التي تدعو إلى الجهاد وقتل الخصوم المختلفين معها حتى لو كانوا شعباً كاملاً.
لندع النقاش في صحة أو عدم صحة الحديث عن "مئات الآلاف" التي لا أدري من أين أتى بها صديقنا العزيز د. المسفر، وقضية الحروب قبل الوحدة وبعد الوحدة، والتي قدم فيها الجنوب وكأنه البلد الوحيد الذي عاش صراعات سياسية وكأن بقية البلدان (ومنها شمال اليمن) تعيش سلاماً دائماً ووئاماً وردياً لا يعرف الانقطاع،... لندع كل هذا جانبا ولنتحدث عن قضية الجنوب والجنوبيين التي حصرها دكتورنا في التقاتل والاقتتال والارتهان للخارج من أجل الهيمنة والوصول إلى السلطة، وفي هذه الجزئية أذكر الصديق الدكتور المسفر بالتالي:
1. أنت تتحدث عن قرابة ستة ملايين جنوبي وتصورهم على أنهم "يقاتلون ويتقاتلون من أجل الوصول إلى السلطة"، وهذا يبين أحد أمرين: إما أنك لا تعرف ما دار وما يدور في الجنوب منذ 1994م، وأنا أستبعد هذا لأنني أتذكر أن حديثنا في الدوحة في العام 2011م توقف عند بعض هذه التفاصيل، وإما إنك تتعمد تزويغ الحقائق والهروب منها لأغراض لا أستطيع تبريرها أوحتى فهمها.
الجنوبيون يا صديقي لم يقاتلوا أحدا، بل خرجوا بمئات الآلاف رفضاً لسياسات القتل والاستباحة والسلب والنهب والتدمير، ومن شرع في قتلهم هم "الوحدويون" الذين تطالب الجنوبيين بالبقاء تحت هيمنتهم، إنهم (الجنوبيين) ناضلوا ويناضلون سلمياً من أجل استعادة دولتهم التي كما تعلم أسقطها غزاة العام 1994م وأكمل ما تبقى منها غزاة 2015م، فإذا كنت تجهل هذه الحقيقة فإنه لأمر مؤسف، أما إذا كنت تعلمها ولكنك تتهرب من البوح بها فقد خسرنا باحثاً أكاديميا كنا نظنه دقيقا وحصيفاً وكان يحظى باحترام الكثير من متابعيه.
2. إنك تتحدث عن "إخواننا في الجنوب" وتقول عنهم إنهم قتلوا "مئات الآلاف من القومية العربية" ومئات وربما الآلاف من "الحركة اليسارية"، وتكتفي بحصر تاريخهم في هذه الاجتزاءات غير الأمينة، وهذا الحديث يفتقد ليس فقط للعلمية والأكاديمية بل وللأمانة والموضوعية، فكيف يمكن لأكاديمي متعلم أن يصور شعباً كاملاً على هذا النحو وينسى نظرية التباين والاختلاف والتفاوت والتنوع التي يتفق كل من يجيد القراءة والكتابة على أنها سنة من سنن الله في خلقه وقانون من قوانين الكون.
3. وحتى لو افترضنا صحة ما أوردته من أقاويل عن أحداث الستينات والثمانينات من القرن الماضي، فإن هذا التناول يفتقر إلى أدنى حدود الموضوعية والأمانة العلمية، فأنت يا صديقي تحاسب جيلاً تعداده ستة ملايين نسمة معظمهم لم يعيشوا تلك الأحداث ولا ذنب لهم في مجرياتها وتداعياتها (حقيقيةً كانت أم ملفقةً)، فهؤلاء نشأت غالبيتهم في وضع يقوم على التهميش والاستباحة والحرمان من أبسط الحقوق الحياتية الاعتيادية على يد دولة شقيقة دخلت باسم الوحدة وانتقلت إلى الاحتلال، وموقفك هذا يمثل جناية في حق الحقيقة والتاريخ وفي حق أجيال الغد التي لم تعد تهمها الشعارات البراقة والأقاويل المخملية التي لا تقدم قرص أسبرين أو رغيف خبز حاف، ناهيك عن دولة ومؤسسات وقضاء وأمن ونظام وقانون مما دمره "الوحدويون الأشاوس".
4. ونأتي لقضية الارتهان للخارج التي تكررت منذ العام 1994م، عندما كان المنتصرون يتهمون كل من نهب منزله أو سلبت أرضيته أو أخرج من عمله أو قُتل ابنه على أيدي أجهزة القمع "الوحدوية" بأنه "قبض الثمن مقدماً" وأنه مرتهنٌ للخارج، وظلت هذه الفزاعة مرفوعة في وجه الجنوبيين على مدى ربع قرن، لكنها لم تستطع إخفاء الحقيقة التي تجنب صديقنا د. المسفر التعرض لها، وهي أن الجنوب قد تحول بعد العام 1994م من شريك بالمناصفة في دولة يفترض أنها تعبر عن كل اليمنيين، إلى مجرد غنيمة حرب استحوذ عليها المنتصرون، وهذه الغنيمة شملت كل شيءٍ جنوبي من الأرض وما فوقها وما تحتها إلى الوظيفة والتاريخ الثقافة والهوية وكل ما هو جنوبي ما عدا الإنسان الذي هو متهم بعدم الانتماء إلى الأرض المسلوبة.
5. وهنا نذكر صديقنا العزيز أن الثورة الجنوبية التي تفاعلت عواملها منذ عام 1994م، قد نشأت قبل أن يلتفت إليها أحد، بل لقد ظلت محل تجاهل ومحاربة وتعتيم من قبل كل الأوساط السياسية والإعلامية العربية والعالمية، وتمسك بها أبناء الجنوب لإيمانهم المطلق بعدالة أهدافها ومشروعية قضيتهم وحقهم التاريخي في تقرير المصير الذي يختارونه لأنفسهم، وهم لا يخططون لأخذ حق أحد ولا يتآمرون على أحد ولا يكيدون لأحد، ولا يرتهنون لأحد، وإذا ما تقدمت أي دولة لهم بالدعم المعنوي أو المادي فإنهم يكنون لها كل التقدير والاحترام، ولا أفهم لماذا يصر بعض الأكاديميين العرب القوميين (ومنهم الدكتور المسفر) على أن الثورة هي حق في مكان ما ويجب دعمها، لكنها باطل في الجنوب وأي دعم لها يمثل ارتهانا لشعبها لمن قد يقدم يه هذا الدعم.
6. وأخيراً همسة في آذان الأصدقاء من المثقفين القوميين الوحدويين العرب ومنهم صديقنا الدكتور المسفر: إن اتهامكم لشعب الجنوب بأنه ضد الوحدة وأنه يسعى إلى تمزيق اليمن، يمثل مجافاةً مكشوفة لأبسط البديهيات التي يراها كل ذي عينين (أو حتى عينٍ واحدة) وملخصها:
أ. إن وحدة عام 1990م التي بادر إليها الجنوبيون لم تدم سوى ثلاث سنوات كانت مملوءة بالتوتر والصراع والغدر وعمليات الاغتيال والقتل والتصفيات الجسدية ضد الجنوبيين وحدهم، وقد انتقلت إلى جوار ربها بحرب 1994م، أما ما بعد 94 فقد عرف كل العالم إلى ما آلت إليه من احتلال وتدمير واستحواذ وإقصاء لكل ما هو جنوبي.
ب. لقد تفكك اليمن وتشظى وتجزأ إلى قطع وجزيئات متناثرة ليس بسبب الجنوبيين وثورتهم السلمية ومطالبهم المشروعة، ولكن بسبب قوى الهيمنة والسلب والنهب التي فككت الشمال إلى شمالات عدة وتحاول تفكيك الجنوب إلى جنوبات بعد أن أوصلت البلد إلى هذا الخراب المقيت.
ت. إن تباهي صديقنا د. المسفر بموقف قطر الداعم لحرب احتلال الجنوب في العام 1994م بمثل جهلاً بالحقائق المرة التي أنتجتها تلك الحرب الكارثية، ويصب في خانة مواقف الكثير من الجنوبيين الذين يعتبرون السلطات في قطر طرفاً معادياً لآمال وتطلعات الجنوبيين في استعادة دولتهم، ونصيحتي للصديق الدكتور المسفر أن لا يواصل توسيع كراهية الجنوبيين لدولة قطر من خلال هذا التباهي بدعم مشروعٍ ماتَ وشبع موتاً بعيد ولادته بسنوات قصيرة وأنتج ما أنتج من خرائب وحرائق ومنظومات فساد أهلكت الأخضر واليابس ودمرت الكيان والإنسان في كل اليمن.
وهناك الكثير مما يمكن التوقف عنده، لكنني أكتفي بهذا القدر، مختتما بالتأكيد على أن ما ورد في حديثي هذا لا يقلل من احترامي وتقديري للصديق العزيز الدكتور محمد المسفر وتمنياتي له بالصحة والعافية والعمر المديد.
*من صفحة الكاتب على الفيس بوك