حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

الصراع باسم الدِّين في اليمن القديم

Saturday 11 April 2020 الساعة 09:53 am

خلافاً للمرويات القديمة التي تُبْرِز الدوافع الدينية في حملات الملك الحميري ذو نواس (واسمه أحياناً "يوسف أسار"، و"دومنوس أو داميانس" عند الرومان، و"مسروق" عند السريان) ضد المسيحيين في نجران وظفار وغيرهما من مناطق اليمن القديم، وتنظر إلى تلك الحملات باعتبارها استهدافاً خالصاً للعقيدة المسيحية وبطشاً بمعتنقيها بسبب عقيدتهم، فإن المؤرخين في العصور الحديثة يستعيدون تلك الوقائع ويفسرونها عبر إبراز خلفيتها السياسية أو التجارية، وبالتالي يصبح المعتقد الديني أشبه بواجهة تخفي تحتها أهدافاً مادية، أو يصبح عامل واحد من بين عدة عوامل للصراع، بدلاً من أن يكون العامل الوحيد.

فالمسيحيون في نجران لم يكونوا مسيحين وانتهى الأمر، أو على الأقل لم يكونوا كذلك في نظر الملك الحميري ذو نواس. كانت مراكزهم الدينية وأماكن تجمعاتهم تبدو كبؤر خطرة لنشاط سياسي وتجاري مرتبط بمصالح بيزنطة المسيحية وحلفائها الأحباش. في ذلك العصر، كانت المسيحية قد تحولت إلى أداة سياسية تخدم مصالح بيزنطة. وتقول إحدى الفرضيات التاريخية القوية إن ذو نواس ربما وصل إلى عرش مملكة حمير بانقلاب على سلفه الذي كان على صلة وثيقة بالمسيحية والأحباش.

كان على الملك الجديد أن يختط لنفسه اتجاها سياسيا وروحيا مغايرا لسلفه، فاعتنق اليهودية -أو تظاهر باعتناقها- وشجع رعاياه على اعتناقها، ومن خلالها ارتبط سياسيا بالقطب المنافس لبيزنطة والأحباش، أي بالإمبراطورية الساسانية (فارس) التي كانت تؤوي اليهود على ما يبدو.

إظهار الأبعاد الدنيوية في تلك الوقائع البعيدة، التي نقلت لنا النصوص الدينية أخبارها كعنف ديني محض، هو جهد معرفي وتاريخي ينتمي إلى اتجاهات العقلنة والتنوير والعلمنة.
الملفت للنظر في رواية الكنيسة الأرثوذكسية الواردة في كتاب "الشهداء الحميريون" أن الوفد الذي بعثه ذو نواس للتفاوض مع المسيحيين الأحباش المتحصنين في مدينة ظفار عاصمة الحميريين، كان يتألف من كاهن لاوي من يهود طبرية، وشخص مسيحي من نجران اسمه عبد الله ابن ملك، ("وكان مسيحيا اسما فقط"، هكذا تصفه الوثيقة السريانية الأرثوذكسية!) ومسيحي آخر من حيرة النعمان واسمه كونب ابن موهوبة ("وكان هو الآخر مسيحيا اسما"! حسب وصف الوثيقة).

وأن يضم وفد الملك الحميري (اليهودي) ذو نواس أشخاصا "مسيحيين"، فهذا مؤشر أول على أن الاعتقاد الشخصي بالمسيحية لم يكن هو المستهدف بالاضطهاد والقمع. وأما القول بأن مسيحية أعضاء الوفد كانت اسمية فقط، فهو لا يعكس إلا الطبيعة اللاهوتية الدينية المتحيزة لكاتب الوثيقة الذي يرى في تعاون أي مسيحي -سياسيا- مع الملك الحميري خيانة ونوعاً من الردة عن المسيحية. هذا التخوين والتكفير معهود في النصوص الدينية.

يُستخلَص مما سبق أن الدين، أو الاختلاف في العقائد، لا يستطيع أن يكون وحده حافزاً كافياً للحرب والقتال والقمع والتطهير. لا بد أن يكون هناك سبب مادي للصراع.

يترتب على هذا النمط من التفكير والبحث والتفسير، وضع حادثة دامية مثل حادثة نصارى نجران في سياق تاريخي عقلاني قابل للفهم، حتى ولو لم تكن أعمال القتل والحرق مستساغة ومقبولة من الناحية الأخلاقية بمعايير وحساسيات زماننا.

وبهذه الطريقة تصبح حملة ذو نواس وإجراءاته ضد نصارى نجران (أصحاب الأخدود)، عملا قانونيا من تلك الأعمال المنوطة بالدول من أجل تثبيت أركانها ونشر سلطانها وإزاحة كل ما يقف في طريقها. أو بتعبير آخر: تصبح تلك الحملة عملا من أعمال السيادة بلغة اليوم. فالعنف كان موجها ضد المجموعات المسيحية لأنها تمردت على قانون الدولة وليس لأنها آمنت بهذا الدين أو ذاك.