يتصاعد اليوم الجدل مجددا حول توكل، وسط جو صاخب من المزايدات بالاستنقاص والتعظيم. وأردت المقال بهذا أن يكون مختلفا كليا عن طرق المزايدة محاولا الالتزام بالموضوعية قدر الإمكان.
أعتقد أن الطريقة الممكنة لتعرية زيف هذه المزايدات بتطرفها: تعظيما مبالغا، واتهاما مغاليا؛ لرسم صورة حقيقية أقرب للموضوعية عن هذه الشخصية المثيرة للجدل، هو التوقف قليلا عند النقاط الآتية:
-الظرف السياسي العام الذي خرجت منه توكل، وما زادت عليه وما نقصت، كقيم واخلاقيات وقدرات شخصية وتأثير ذلك بالشأن العام.
- ما الذي بإمكانها أن تقدمه اليوم وغدا من عمل سياسي نوعي في سياق ما مضى من سيرتها والملامح العامة التي اكتشفت من شخصيتها.
حين نقف عند الأمر الأول نجد بأن توكل بنت ظرف سياسي معقد جدا، مواهب كل الشخصيات السياسية والثقافية على الصعيد الوطني كانت جدا محدودة، وأهم من ذلك بأن المثالية الوطنية شبه منعدمة نهائيا، كجانب حقيقي، بينما تتواجد كشكليات مزايد بها.
الطبيعة العامة لهذا الجو هو الاستبداد الشخصي بالرأي والفكرة ومختلف الممارسات السياسية والإدارية النظرية والعملية.
وفي حقيقة الأمر فتوكل بنت هذه البيئة لم تزد عليها ولم تنقص في أدئها السياسي فمعاناتها من الاستبداد قد نقلته حرفيا تطبقه في إدارتها وأنشطتها وفكرها، ومواجهتها للاستبداد السياسي والديني بنفس طريقة البيئة السياسية المغالية بالعداوات والصداقات، بعيدا عن أي تخلق بالجانب الأخلاقي والموضوعي.
المعارك الحقيقية بين توكل والاستبداد السياسي والديني تم اجهاضها وانتصر الطرف الآخر على توكل. ولكن هذا لا يجعلنا نقدر شجاعتها المبدئية على بدء اشعال هذه المعارك التي تم التفاوض معها لإخمادها.
توكل كبنت مسؤول حكومي وإخواني عاشت بيئة الإخوان الاكثر انفتاحا وارتباطا بالسفارات والمنظمات الدولية، مما جعلها تتبنى النظرة الدينية الإصلاحية ومحاربة الراديكالية الدينية الأكثر تطرفا داخل الحزب نفسه، وهي قد تكون حصلت على معلم فكري يحسب له بعض من العمق والرصانة، وهو الاستاذ ياسين عبدالعزيز، الذي كان يعتبر الخصم الفكري للزانداني داخل الحزب والجماعة.
فحين بدأت توكل معركتها ضد الراديكالية الدينية، عبر كتاباتها الصحفية، لقت المحاربة والضغوطات الكبيرة، ولربما كان احتيالا عليها على شكل نصيحة أنه أنت خليك بالجانب الحقوقي والسياسي وابتعدي عن الجانب الديني، ونحن ندعمك لمنافسة الناشطات المدنيات التي لهن شهرة ودعم دولي اكبر منك، مثل أمل باشا. ويبدو أن الفكرة بطريقة أو بأخرى قد دخلت مخ توكل وإن كان القصد بها بداية ليس إلا مغالطة لها، ومحاولة إيقاف أفكارها. وأن الفكرة قد انقلبت بالفعل إلى خطة عملية.
بدأت توكل المعركة السياسية ضد صالح بأشخاص أقل من أصابع اليد الواحدة، ثم بدأت تتزعم شباب المشترك بشكل محدود جداً. وحين جاء الانفجار العفوي لثورة فبراير رأت توكل الفرصة المواتية لها، لكنها واجهت مرة أخرى الاستبداد السياسي من الجماعة والحزب، لم تكن توكل متقاطعة تماما مع العفوية والتفكير الجديد لثورة فبراير، لكنها كانت أقرب إلى تفكير المشترك اكثر من قدرتها على الامتثال الحقيقي للتفكير الجديد الذي يتجاوزها وبأقل الأحوال لا يعطيها الأهمية الكبيرة.
كانت توكل شعرت أو لم تشعر أداة لإجهاض الثورة العفوية بقيمها الاخلاقية الجديدة التي جاءت تتجاوز تأزمات الوضع ومنطق التفكير المتخلف للنخبة السياسية. لعلنا نستطيع القول فقدت الثورة الحقيقية توكل وفقدت توكل الثورة الحقيقية.
وبعد إجهاض الثورة العفوية بقيمها الأخلاقية وبقاء ثورة المشترك وأعضائه على الساحة، تفتحت شراهة توكل للزعامة، من ناحية، ومن ناحية أخرى يأسا من أداء قيادات المشترك المتخلف مع تأجج الوضع ثوريا، والشعور بالملل فقادت المظاهرات التي تتقاطع مع مصلحة الجماعة وحساباتها السياسية، في إطار اللقاء المشترك، وهنا تم مواجهة توكل المرة الثانية باستبداد سياسي كبير والعمل على قمعها، كان لتوكل نقطة قوة علاقتها بالمنظمات الدولية، وتكتل بعض المتمردين من الحزب ونخبة من شباب المشترك فقادت توكل المظاهرات من داخل الساحة في ظل خلاف شبه كامل مع الحزب، والملمح الواضح على هذه المرحلة هي مظاهرة رئاسة الوزراء.
ثم عملت توكل على تقديم خطوة سياسية بعيدا عن المشترك، فقامت بتشكيل المجلس الرئاسي الانتقالي، وهنا اشتد الصراع العنيف مع الجماعة، والاتهام والتخوين لها. وفي ظل هذا التأزم جاء خبر فوز توكل بنوبل للسلام، ومن هنا فتحت صفحة جديدة للعلاقة.
لقد تعاملت معها الجماعة بمكر ودهاء كبير فلم تكد توكل تفكر بالانتقام لنفسها مما مارسوا عليها من الاضطهاد والحرب الشعواء، حتى أتوها خاضعين مكبرين لها وأنه كان ذلك من خوفنا عليك لكن أنت الآن شخصية عالمية، افعلي ما تريدين. وفي حقيقة الأمر فقد الهوها بالشعارات السطحية والعداء المتطرف لصالح ليعملوا هم ما أرادوا.
فبعد عودتها من استلام الجائزة جاءت خاضعة تسجل كيانها "مجلس شباب الثورة" في المنسقية العليا لشباب الثورة، التي تتبع التنظيم الذي حاربها، وتخلت توكل عن احلامها وثأرها معهم، وخذلت كثيرا من الشباب الذين تحمسوا معها منتظرين عودتهابعد استلام الجائزة لمصارعتهم بقوة، والانتصار عليهم.
نجحوا هنا في محاصرة توكل بأن تكون بنت الحزب والجماعة وأن لا تتحول إلى شخصية وطنية عامة، وبطريقة أو بأخرى جعلوها تظهر بأنشطة فارغة وشعارات سطحية، ليخفت وهجها أكثر وتظل بيد الحزب، غير قادرة على خلق نهجها السياسي المستقل وآلياتها الخاصة.
مرة ثالثة -وقد تكون الأخيرة-، حاولت توكل أن تخرج عن النص، وتثبت بأنها شخصية لها رأيها الخاص ولا تتبع أجهزة دولية وسرية تتحكم بها، لكن أيضا تم مواجهتها بطرق مختلفة وإعادتها إلى سيطرتهم، وكان هذا في تأييد الثورة ضد مرسي، التي ما لبث أن استغفرت وعادت تفكر كما يفكر القطيع.
أخشى أن يفهم من كلامي بأني أقف مع توكل ضد الجماعة والحزب، وأبرر لها كل ما اخفقت به، وليس هذا ما اقصده، وإنما أردت قراءة المسار العملي التي مرت به بطريقة أقرب إلى الحقائق للواقع.
جوهر فكرتي في الأمر كله، بأن الاستبداد أيا كان يخلق شخصيات مضطربة، وتوكل لها محاولات جريئة، ولها تطرفاتها ضد الإخوان ومعهم. وقد تعذر توكل فالمواجهات مع الاستبداد ملاحم معقدة جدا. فقد يصح القول جائزة نوبل للسلام تستحقها لمواجهتها استبداد الجماعة أكثر من القول في مواجهتها نظام صالح. ورغم أنه في الأخير انتصرت الجماعة والحزب عليها، لكن محاولاتها تظل محل تقدير واحترام وإن لم تكتمل.
قد تجسد توكل شخصية معاناة ومحاولات، لكنها أيضا لم تثمر على الواقع اي ايجابيات كما كان ينبغي، ولها مبرراتها في هذا كما سلفنا.
كما هو الأمر بنفس الوقت تنسب لها اتهامات وتحمل آثام ليست ذنوبها، فتوكل لم تأت بالسلام ولم تحل تعقيدا ولم تشارك بفتح أفق، مما يجعل المبالغات بمدحها مجرد تزلف وكلام أدبي وإنشائي.
كما أنها ليست مسؤولة عن الحروب والصراعات ولم تخلقها ولم تقد جيوشها، مما يجعل اتهامها في هذا مجرد اتهامات فارغة.
في اعتقادي بأن شح الحياة السياسة من القيادات السياسية التي تصنع القادة قد اثر على توكل، فقد فقدت معلما سياسيا عظيما، فلو كان جار الله عمر، رحمه الله، عاش كثيرا، ولو حتى إلى 2006 أو 2009 لكنا رأينا نسخة مختلفة جدا من توكل كرمان، هي أكثر وطنية وابداعا سياسيا.