لنكن منطقيين قليلاً يا صديقي، كل شيء تغير ومُتغير، لا شيء ثابت إلا الله في ملكوته، اما الحياة وعلاقاتها بكل أنواعها (الشخصية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية...الخ) فمتغيرة لا جدال وكل متغير فيها يخضع إما لحسابات المصلحة أو لضرورات فرضت ذلك التغيير. ومن المتغيرات التي لا بد أن نلحظها أو نؤمن بها رغم (العند) الداخلي والتقوقع الذي نسكنه، هو أن اليمن تغيرت بالقول والعقل والفعل، ولم تعد تلك البلاد التي كانت قبل 2006، لن نكون سطحيين لنقول إن بداية التغيير كان في 2011، بل ربما قبل ذلك بسنوات كثيرة، ولكننا سنتفق بأن اليمن 2006 ليست كما بعده.
ويعود ذلك لظهور عدة حركات منها السلمية أو العنيفة، كالحراك في الجنوب واستمرار القتال الحوثي حينها في الشمال، وزيادة السخط في كل بقعة طالها التنمر أو عاث فيها النافذون فساداً ونهبا.. كل ذلك أضعف اليمن كدولة، ونفر الشعب من بعضه كنسيج اجتماعي ولو بدرجة قليلة، بالإضافة لظهور المعارضة الإصلاحية "القبلية" المدعومة (ماليا، وإعلاميا، واستشارة) من دولة قطر، وكان رأس الحربة في ذلك حميد الأحمر، الذي فاخر وتفاخر بتطاوله على الدولة وامتناعه حتى من تسليم ما عليه وشركاته من جمارك وضرائب وغيرها محتمياً بقبيلته "حاشد" والتي صورها هو وحزبه بأنها قبيلة الإخوان وحاميتهم، وما تلى ذلك من تضعضع وصولاً للانقلاب الكبير في فبراير 2011.
علينا أن ندرك يا صديقي أن العاطفة لا تجدي في بناء الأوطان، ولا تستعيد المسلوب منها، كما أنها لا تحميها ولن تصل بها إلى المستقبل، ولذا فلنفكر بعقل ومنطق وواقعية، لقد بات صعباً أن نوحد بين أحياء محافظة تعز، ومديرياتها، كما هو صعب أيضاً إقامة وحدة فعلية بين صنعاء ومارب كمحافظتين في الشمال اليمني، لم تتوحد "الجراف" و"حده" صنعاء ذاتها، في ظل العقليات المتحكمة بالمشهد اللاسياسي، والعاشقة لهلامية الدولة وضياعها، فكيف نبقى حبيسي ذاك الزمن الجميل "زمن الدولة الجامعة"، رغم بعض المثالب، لماذا نبقى في ذاك الزمن الذي ولى، زمن الوحدة والدولة، اللذين كانا مقدسين ولا تسامح في تجاوزهما... أما اليوم فأين الدولة؟! ومن هو الدولة من بين كل هؤلاء النخاسين؟!
أين اليمن بالضبط؟! وهو يتسرب من بين يد الجميع بفعل الجميع، ويئن غدر الجميع وبيعهم له في مزادات العمالة والمصالح الشخصية والحزبية والمناطقية، ويدفنونه كل يوم بالحقد المتنامي بين كل الأطراف المتصارعة!!
اين اليمن الذي يحبه المواطن البسيط، ويفتديه المقاتل المخلص، هل هو هذا اليمن الذي نعيش فيه في هذا الزمن وفي ظل سياسيين فاشلين لا يجيدون سوى أن يضعوا الوطن والمواطن في طريق الهاوية، ويكتفون بالنوم والتنقل بين عواصم العالم!!
صدقني يا صديقي، إنني كمواطن شمالي بسيط أحب الوحدة كما يحبها الجنوبيون أيضاً، ولكن وحدة تلفظ المتنفذين وأحزاب التسلق والنهب، وجماعات الإرهاب والتكفير، والمؤدلجين... نحب الوحدة ونسأل الله أن تدوم حين يكون العدل فيها قائما والمواطنة المتساوية والحرية هي المعيار.. حين نؤمن بأن من حق ابن تهامة أن يدير شؤون منطقته فهو أدرى وأخبر بها من غيره، ويدير ابن حضرموت وعدن مدنهم كما يناسبهم وكله تحت مظلة الوطن الواحد والقانون الذي يتساوى فيه الجميع، لا مشيخية ومحسوبية، ولا إقصاء وتهميش، أو نهب وفيد.
ستبقى الوحدة حين تكون هناك دولة جامعة تؤمن بمواطنيها وقدرتهم على إدارة شؤونهم دون الحاجة لأوصياء، بل لمراقبين يكشفون مكامن الخلل ويعالجون الاختلال، ويحاربون الفساد ويوفرون الخدمات والبنى التحتية التي تضمن حياة كريمة للمواطن في الشمال والجنوب، والشرق والغرب..
لا شيء يحافظ على الوحدة أكثر من شعور الناس بأنهم سواسية، وأن مناطقهم وثرواتهم ومصيرهم ليس بيد أحد آخر، وأن ليس من حق أحد انتقاص وطنية أحد، أو تجيير ولائه، وأن الدين لله سلماً وأمناً وطمأنينية، وليس حزبا وسياسة وفتوى تكفير واستباحة دم ومال وعرض.