أمين اليافعي
على هامش القرارات الرئاسية الأخيرة
اللبنة الأساسية في نموذج الدولة الحديثة والتي ميزتها عن كل الأشكال التقليدية السابقة هي وجود مؤسسات متماسكة عابرة للأفراد.
وكلما كانت المؤسسات من النضج التنظيمي بحيث تستطيع أن تسن قواعدها ومعاييرها المرجعية (والتي تقوم على بُعد وطني، في حده الأدنى على الأقل)، والالتزام بها، تتحول إلى كيان غير شخصي – لا يرتبط بقاؤه بالرئيس أو الشلة الحاكمة، فتستمر على الرغم من تغيير الوجوه، مما يكسبها القدرة على الديمومة، وفي هذه اللحظة فقط، تستطيع الدولة -التي هي في طور التأسيس- أن تضع مداميكها وأساساتها، ومن خلالها أيضا، تستطيع الدول أن تضمن بقاءها واستمرارها، وتجذب إليها الجماعات المحلية، بعدما تحقق نوع من الرضا لدى مواطنيها، وتُعبد الطريق أمام إندماجهم.
وإذا أردنا معرفة مستقبل أي دولة، واستشراف مصيرها سواء بالنشوء، البقاء، أو الفناء، وكذلك الحال بالنسبة للكيانات الأدنى كالقوى السياسية والاجتماعية... يمكن التفحص في نوعية مؤسساتها، هذه المؤسسات التي لا تقتصر على المؤسسات الرسمية، وإن كانت بالطبع في قلبها، ولكنها تتعدى إلى كل مؤسسات الشأن العام: المؤسسات السياسية والحقوقية والنقابية (الأحزاب، مؤسسات المجتمع المدني، الإعلام... إلخ)، المؤسسات الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية... وبرأيي فإن المعيار المؤسسي هو أهم معيار يمكن الاستناد عليه للحكم على الدول، بغض النظر عن شكل نظام حكمها والمواقف الأخلاقية منه: ديمقراطي، ديكتاتوري، تعددي، استبدادي، ملكي، تمثيلي، ذات توجهات ليبرالية، اجتماعية، اشتراكية.. وقد يُجادل البعض، وجدله يقف على وجاهة لا يمكن تجاهلها، أن عوامل مثل الاستبداد والظلم والفساد وغيرها هي أسباب رئيسية وقوية لضعف الدول وانهيارها، لكن لو تأملنا في هذه العوامل، فتقريبا سنجد أنها كلها تدور في فلك المؤسسة، فحتى الدول الشمولية، على سبيل المثال، والصين مثال على ذلك، استطاعت أن تبني مؤسسات قائمة على قواعد ومعايير واضحة وصارمة، وحتى وإن كانت لا تقوم على مفاهيم المواطنة الحديثة المرتبطة بحقوق الإنسان والحريات، لكنها خلقت نوعا من الانسجام المقبول بين النظري والعملي، بين روح مبادئها وقيمها ومعاييرها المرجعية، والتي تُسوقها على أنها وطنية، وبين المخرجات المختلفة التي ينبغي أن تأتي على ضوء وهُدى هذه المرجعيات. لهذا استطاعت الصين كدولة -على الرغم من شمولية نظام الحكم- أن تستمر، وتتطور، وتبني مؤسسات ذات ديمومة، وتجذب كثيرا من فئات الشعب الصيني حولها.
في اليمن، وكثير من الدول العربية، فإن الظروف التي أدت إلى نشوء دول ما بعد التحرر الوطني، سواء من الاستبداد أو الاستعمار، أو كما سُميت، فإن المراحل اللاحقة، خصوصاً في الدول التي تتنازعها انقسامات اجتماعية حادة، وافتقدت إلى كيانات وطنية جامعة، فإن أول ما فعله اللاحقون – لترسيخ بقائهم وحتى لا يتعرضون لمصير أسلافهم في سياق لم تُضبط قواعد المنافسة السياسية بعد - هو استهداف روح المؤسسة التي استطاعت في البداية أن تصمد إلى حد ما، أو تتأقلم، على أي تغييرات في رأس النظام، وبالتالي منعت اهتزاز كيان الدولة عند ذهاب شخص الحاكم. صحيح أنه وحتى وإن حاول اللاحقون بناء مؤسسات بديلة موازية، لكنها كانت مؤسسات شخصية محضة، وهي على النقيض تماماً من المؤسسات الدولتية* الحقة التي تضمن الديمومة والاستمرار.
وفي اليمن أيضا، سبق لباحث مهم كبوروس، من أهم المختصين في الشأن اليمني، أن لاحظ في العام 2009 هذا التحول في المضمون الدولتي للمؤسسات التي كانت قائمة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وصولاً إلى تلك التي كانت قائمة في لحظة حديث الباحث، فتوصل إلى استنتاج، كان يبدو من كلامه أنه قاطع، بعدم تمكن هذا النظام من الإصلاح أو تفادي أو منع الانهيار. وأهم الأسباب –بحسب رأي الباحث- هي "غياب المؤسسات" التي تستطيع أن تتحمل تبعات أي إصلاحات وتحول دون السقوط الكامل. فالنظام كان قد تحوّل إلى مجموعة من الأشخاص والشلل التي تصنع/تأخذ كل ما يمر من تحت إيديها بما يضمن بقاءها واستمرارها، وهذا يأتي على الضد تماماً من غاية كل مؤسسة، كما أنه لا يرتقي حتى إلى فكرة النظام بأي شكل أو نموذج من أشكاله ونماذجه.
ولا غرابة والحال كذلك أن تؤدي عملية سياسية يُفترض أن تكون بسيطة في مقاييس عالمنا الراهن (تغيير رئيس) في العام 2011 إلى كل هذه التداعيات المهولة. والنتيجة الواضحة التي نستخلصها من الحالة اليمنية في سياق نقاشنا هي أن رجال هذا النظام استطاعوا أن يضمنوا، بشكل أو آخر، مصالحهم وامتيازاتهم ومكانتهم، على الرغم من كل التحولات التي تبدو مهولة وسيريالية في نفس الوقت، وتغيير العواصم ومقار الإقامة، وتَبدُّل التحالفات المحلية، وتغيير الداعم الخارجي، حتى وكأن هذه الإطار الذي يُسمى "دولة" قد تحول إلى وظيفة مهرج لا نهاية لخفته، ومن خلاله تستطيع شلة الحكم ارتداء أي قناع، ووضع أي مساحيق، بما يناسب كل موقف ومناسبة، دون أن يكون هناك أدنى حرج من حجم التناقضات والخفة. ومن خلاله استطاعت أيضاً هذه الشلة الخروج بسلام وربما أكثر عافية من كل التحديات والأخطار التي يفترض أنها موجهة لها أولاً وأخيراً، في نفس الوقت الذي يتعرض مفهوم الشعب، كمفهوم سياسي، وكذلك مصير أفراده إلى أخطار وجودية ماحقة. (في هذا السياق أيضا، ندرك جيداً، ولو على نحو متأخر، ملاحظة الدكتور أبو بكر السقاف الدقيقة التي كررها أكثر من مرة بوصفه للدولة اليمنية القائمة، وليس لمجرد النظام، بأنها "دولة ضد الشعب"، فتدمير ومحو كل مضمون من مضامين المؤسسات، وبانتظام، والتماهي شبه التام بين رجال الحكم والمؤسسات التي ينبغي أن تكون مؤسسات دولة، أسقط روح/مضمون الدولة، فتصبح الأخيرة عبارة عن وسيلة لا هَمَ لها ولا غاية سوى حفظ رجال هذا النظام ومصالحهم، بكل السُبل المتاحة، وهذا الشكل الذي بلغته يأتي بطبيعة الحال على الضد تماما من فكرة الشعب، الذي هو عمق فكرة الدولة ومحورها، والدولة بالنسبة له هي أداته أو بنيته السياسية التي تضمن بقاءه، وتحفظ حقوق أفراده، وتصون كرامته، وتحقق تنميته وازدهاره في صورتها الأرقى...).
وبالعودة إلى موضوع العنوان، أي تعيينات هادي الأخيرة، ومن بينها تعيين الدكتور أحمد عبيد بن دغر رئيساً لمجلس الشورى، بعد قرار إبعاده عن مجلس الوزراء وإحالته للتحقيق الذي لم يُنفذ قط. لا تبدو هذه القرارات على أنها مخالفة للدستور والقوانين ذات الصلة فحسب، وفقا لانتقادات الكثيرين، لو افترضنا بالطبع استقامة ملاحظة كهذه في السياق اليمني الذي تبدو مثيرة للشفقة والتهكم، حيث تحوّلت مواد الدستور والقوانين إلى مادة أشبه بمساحيق المهرج، تستطيع الشلة الحاكمة وداعموها، خلْطَها وابتكار أشكال وألوان عجيبة، بالطريقة التي تريدها، وببراعة تُحسد عليها. لكن، وبشكل عام، قد تكونه هناك في مرحلة الأزمات والتوعك قرارات أو خيارات استثنائية يضطر إلى اتخاذها صانع القرار، ولا تنسجم في مضمونها المباشر مع المرجعيات الحاكمة، ولكنها في جوهرها وغايتها النهائية تخدم هذه المرجعيات، على أساس أن كل أزمة في المقام الأول هي تحدٍ للقواعد، وتعرضها للاختبار، وقد تكون هذه القواعد من جهة ما تحول دون معالجة الأزمة، فكون الحاجة إلى بعض الخرق الاضطراري ضروريا في سبيل الحفاظ على إطارها العام، وعلى نسق قاعدة شهيرة: "تقليص بعض أوجه الحرية في سبيل ضمان الحرية"...
حركة التعيينات الجديدة تبدو مثل نزق طفولي، أي محاولة للإرباك وخلط الأوراق وتعويم المسار بمزيد من التناقضات والفوضى في لحظة هي أصلاً مليئة بكل ما لذ وطاب من التناقضات والتعقيدات، وغاية هذه الحركة الأولى والأخيرة هي محاولة الشلة الحاكمة، وبصورة مستميتة، الحفاظ على مواقعها وامتيازاتها في وجه أي محاولات لاجتراح أي تعديلات، ولو شكلية أو تجميلية، وبأي ثمن يدفعه أفراد الشعب.
اعتبر جورج بوردو، منظر الدولة الشهير، أن أهم سبب من أسباب انهيار الدول هو "مخاطر انحطاط القرار وفساد الأصل/المرجعية نحو سلطة اعتباطية"، وليس من الغريب أن تبدو هذه الشلة الحاكمة كأبعد نقطة في نهاية مسار السقوط الذي بدأ التأسيس له منذ سنوات عديدة، وتعثر وقفه بكل السُبل والممكنات، وبالاستعانة بكل الخبرات المحلية والدولية، ويا للأسف الشديد!!
*الدوليتية: مفهوم يشير إلى توسع عمليات الدولة ودورها في المجالات المختلفة التي تهم المجتمع.
•من صفحة الكاتب على الفيسبوك