عبدالستار سيف الشميري

عبدالستار سيف الشميري

تابعنى على

هل يعالجنا رمضان ويروضنا التصوف؟

Sunday 11 April 2021 الساعة 04:40 pm

تكمن قوة الإنسان وسعادته أيضاً في نقطة توازنه الروحي، ونقطة التوازن صامتة حادة السكون، وهي سر عميق يحصد بالتجربة والمراس، هي مرسى سفن السمو والسكينة ورافعة من روافع ترويض العقل الصاخب الباحث عن إجابة للتساؤلات الكبرى عن الحكمه الكونية العليا...

نقطة التوازن هي حالة وعي مُتقد يقترب من المطلق بوهج روحاني وعلى الفرد مسؤولية إيجاد هذه النقطة عبر عبور الملكات الروحية والفكرية، والغوص في الأعماق دون وجل ودون خطوط حمراء ولكل مجتهد نصيب، والتأمل وترويض الروح طريق سالك لصهر تلك الملكات التي هي بداية طرق أبواب الحقيقة ونوافذ الحكمة، وهناك مواسم لبلوغ هذه الملكات والمقامات المتباعدة، السهلة الممتنعة في آن.

ورمضان هو رباط الأشهر المنفلتة من عقال الروح نحو الجسد، ودون دوران في الخلاف الضارب عن تعريف الروح وماهيتها ووجودها وعدمه وتضارب الأحكام والافهام من بعض الفلاسفة والعلماء في الحقل التجريبي، بعيدا عن ذلك كله وعن التسميات المختلفة للروح، يبقى ذلك الشعور والإحساس الإنساني العامر بالحب والفرحة والحنان هو ما نسميه روحا أو ما يسمى ضميرا عند البعض وإنسانية عند آخرين، ويصطفي البعض تسميات أخرى، ذلك الإحساس بالجمال والآخرين هو أحد تمظهرات هذا الوجود الروحي الخلاق، الذي له طعمه المختلف، وهذا الوجود الروحي المحسوس غير المنظور يتشابه مع العقل الكلي أو الصانع الأول، من حيث الإحساس به وعدم رؤيته، والذي هو أيضا يسمى روحا ويسمى غير ذلك. وكلمة روح متواترة وتكاد تكون مصطلحا من مصطلحات الفيض الافلاطوني، لكنها أيضا مصطلح عابر للديانات المختلفة كالكونفوشية واللاوية في الصين والزرادشتية والهرمسية واديان مصر والكثير من ذلك في البوذية وقبلهما قصص مشابهة في أسفار العقائد القديمة وآثار الحكماء، ونقوش المعابد، وفي اليهودية والمسيحية والإسلام أيضا شيء من ذلك، والوصول إلى ملكات الروح فيه إطلاق لملكات العقل أيضا وقد يصل بصاحبها إلى ما لا يصل إليه الفيلسوف الناظر أو العالم الزاخر أو النبي، بحسب الذاهبين في هذا الطريق، ولعل في قصة موسى مع العبد الصالح تجسيدا لهذا المعنى المقصود حيث العبد الصالح أعلى مرتبة وعلما وحكمة من موسى النبي التلميذ، الذي فشل في الاختبار، ولم يكن مستحقا للصحبة، لعدم تماثل القدرات العلمية، وتجانس الطاقات الروحية، أو عدم وصوله لنقطة توازنه الساكنة الصامتة، لكنها فرصة أتحيت له للتدرب والتعلم للوصول ولعله لم يصل حتى وهو ينادي ربي أرني وجهك ليطمئن قلبي.

وفي التراث الصوفي البديع ما يخطُ سطوراً في ذات السياق، على سبيل المثال قصة مَولانا جلال الدين الرومي مع شمس التبريزي، الدرويش الذي غير حياة وفكر مولانا العلامه الفقيه وأعاد له مسار الرؤية نحو ذاته وروحه فَخلق منه إنساناً جديدا فكان كتابه المثنوي الذي يعدُ قران فارس الخالد، وعشاق "النريفانا" والتسامي ومتصوفة الأديان يقودون أرواحنا للتحليق بعيدا في فضاء الكون الفسيح ويسُنون قانونهم الروحي بأن كل شيء موجود في ذاكرة الكون الاثيرية وبأبعاد مختلفة، وما علينا سوى ترك أنفسنا للذهاب في محاولات السباحة كي ينال كل فرد منا بطريقته صيده الثمين، وهي مرحلة تغيير وجداني عميق، يقول من جربوها إنهم وجدوا فيها متعة الاكتشاف والدهشة، ويرفضون التهم الموجهه إليهم أنها حالة هلوسة أو شطح أو انسحاب من عالم الواقع إلى عوالم اللاهوت أو الباهوت، بل يرون أنفسهم في حالة جهاد مع النفس وأن ما يقومون به حالة ثورية تبدأ من النفس وتمتد إلى الواقع وليس أدل على ذلك من الحلاج الذي كان ثائرا واجه سلطتين معا هما السلطة الدينية والسياسية ودفع ضريبة ذلك، وأصبح مسيحا آخر يصلب وهو يصلي ركعتين بوضوء الدم، وبعض المتفننين في طريق الفناء في الحقل الإسلامي يفضلون رمضان للقيام بهذه الرحلة الذاتية التي تستحق، ويرون أنها رحلة لن يفهمها بدقة إلا من "ذاق، ومن ذاق عرف"، ويفتتحون رحلة الذات برحلة الاستقبال أو ما تسمى رحلة "الرؤية"، ولا تزال مصر تحتفظ بهذه التجربة في كل عام والتي تتزامن مع رؤية الهلال، وتقام الرحلة الشهيرة في موكب هادر من مسجد السيدة زينب إلى مسجد الحسين في القاهرة في زيارة من الأخت إلى الأخ، ثم تتقاطر الزيارات التي يصحبها رحلات سماع وأهازيج روحية من شذا البيت الصوفي المختزن بألوان متنوعة عمرها ألوف السنين، شاهدت وشهدت بعضها في سالف السنوات وربما افعل لاحقا، لست صوفيا أو داعية للتصوف، لكني أجد في بعض إشراقات المتصوفة "أقول بعضهم" إشارات رشيقة ومريحة لرمزية الوجود تجذب الروح إلى نقطة التوازن وتلهمها شيئا من إشراق، ولعل هذه الأقوال والنفحات تقدم التصوف بصفته دين الأديان أو دين الحب والهامش المشترك بين كل عقائد الأرض المختلفة دون خلاف، ويبقى شهر رمضان شهر الصوفية وفرصة روحية لترميم شروخ النفس وما تأكسد من أرواحنا المتعبة والمثقلة بجوارح الليل والنهار والحروب والأحقاد، كل بطريقته التي يحسنها، "والطرائق بعدد أنفاس الخلائق"..