تنامت خلال الأسابيع ألأخيرة ظاهرة إعلان التشكيلات والمنابر والمكونات السياسية الجديدة من مختلف المستويات والاتجاهات والعناوين.
وهذ ظاهرة لا يمكن تصنيفها بوضوح والكشف عن محتواها ومدلولاتها، بيسر في ظل تزايد العدد واختلاط الأصيل بالمنسوخ والغث بالسمين، لكن أهم ما يمكن استكشافه من هذه الظاهرة، هو حالة اليأس التي أصابت النخبة السياسية في اليمن، من ثنائية الشرعية والانقلاب.
هذان القطبان اللذان لم يظهرا سوى سجية واحدة وهي التنافس على من يحتل موقع الأسوأ في سلوك قادته وتوجهاته السياسية وأداء منظومته الحاكمة والمتحكمة، وما يزالان يتبادلان الموقع، فيفوز أحدهما بالمركز الأول لكن الثاني يشد من حيله فيستعيد موقع الأسوأ والأقبح والأكثر فجورا وفشلاً، وهكذا.
وبالعودة إلى موضوع حديثنا فقد تحاشيت التعليق على عدد من المنابر والتيارات التي ظهرت على مدى الأسابيع الأخيرة، لأن ترك بعض الأمور قليلة الوضوح، أفضل من الاقتراب منها وستكشف الأيام ما فيها من صالح ومن طالح.
لكنني خصصت هنا بالحديث البيان الذي وصلني من أكثر من جهة وعبر أكثر من وسيلة إعلامية وتواصلية، والصادر عن "تيار التوافق الوطني" والذي لم أسمع عنه من قبل، رغم حديث البيان نفسه عن مؤتمر تحضيري ثان، ما يعني أن هناك مؤتمرا تحضيريا أول قد سبق هذا المؤتمر، وسأترك التفاصيل لموقف لاحق وأغوص مباشرة في ملاحظاتي على البيان من منطلق تقديري للعديد من الأسماء التي تصدرت محتويات البيان، وبعضهم زملاء وأصدقاء أتقاسم معهم الكثير من القيم والأفكار والهواجس والتصورات.
لم يقل البيان أين عقد المؤتمر، أعني المدينة والبلد، لكن من الواضح أن المؤتمر قد عقد عبر إحدى خدمات التواصل المرئي، والأسباب معروفة، منها جائحة كورونا، والإغلاق الذي تعيشه بعض البلدان، وتعدد أماكن إقامة المشاركين في أعمال المؤتمر ما يجعل تجمعهم في بلدة واحدة أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلا.
ليست تلك هي القضية المهمة، لكن ما سأتعرض له يمكن اختصاره في ما لم يقله المؤتمر والمؤتمرون من حيث قفز التيار ومؤسسيه على أهم الثنائيات المستحكمة في المشهد السياسي اليمني، على افتراض أنهم من دعاة الدولة اليمنية الواحدة رغم أنهم لم يقولوا بهذا ولم يقولوا بعكسه، لكن سياق الحديث هو ما يقول بذلك.
1. لم ألاحظ أية إشارة في أحاديث المتحدثين عن ثنائية "الشرعية والانقلاب" وهي الثنائية المحورية التي تحكم المشهد السياسي اليمني، وبدون تناول هذه القضية فلا الحديث عن الحرب والسلام ولا الحديث عن التنمية والاستنهاض ولا عن الماضي والمستقبل يبدو ذا قيمة.
وما أقصده هنا ليس بالضرورة الانحياز إلى أحد طرفي هذه الثنائية، رغم انتماء البعض إلى صف ما نسميه بـ"الشرعية" لكن عدم الإشارة إلى هذه المعادلة المعقدة لا يبين شيئا من معاني خارطة الطريق التي يتحدث عنها منظمو التيار، ولا مع من سيقيمون السلام، وبمشاركة مَن مِن الأطراف والقوى السياسية وبأي آليات ووسائل يمكن تحقيق خارطة الطريق.
2. لم يقل أيٌ من المتحدثين شيئا عن ثنائية الشمال والجنوب أو ما يختصره البعض بــثنائية "الوحدة والانفصال" وما يسميه الجنوبيون بــ" العودة إلى نظام الدولتين" وضمنا ما صار يعرف بـ"القضية الجنوبية " في المحافل والمنابر السياسية والإعلامية بما فيها تلك التي أشرفت عليها السلطة الانتقالية وشارك فيها الجميع قبل أحداث سبتمبر 2014م وأعني هنا مؤتمر الحوار الوطني في فندق موفنبيك صنعاء.
وفي ظني أن أي تيار لا يحدد موقفا من هذه القضية، ليس بالضرورة بالتأييد أو التنديد، لكن بتقديم رؤيته للناس عن هذه القضية المحورية، فإنه يظل محل تساؤل وربما تشكيك كل الأطراف التي حاول القائمون على التيار (على الأقل في ما صدر عن هذا المؤتمر) تجنب إغضابها، لأن محاولة استرضاء الكل هي إغضاب للكل كما يعلم كل ذي فطنة.
3. هناك قضايا تختزلها مجموعة من العناوين الثنائية، كثنائية الداخل والخارج، والدولة المدنية والدولة الدينية، أو العسكرية، وثنائية الدولة والقبيلة، وغيرها من العناوين التي لم أقرأ ما يعبر عن موقف التيار منها، على الأقل في ما نشرته الصحف والمواقع الإلكترونية عن مؤتمر التيار.
قد لا أكون معنيا بتشكيلات التيار القيادية، لكن القارئ دائما يستكشف مضمون أي كيان سياسي من خلال أسماء قادته، وإذ يمكنني اعتبار الإشارة إلى عبارة "إحدى أو أحد مؤسسي التيار" هي إشارة خجولة إلى قادة التيار الراهنين أو المستقبليين، فيمكنني الرهان على أن هذا التيار يمكن أن يحدث اختراقا في البنية السياسية في ما عُرِف بالجمهورية العربية اليمنية، وهي المساحة الواقعة تحت سيطرة الجماعة الحوثية.
لكن هذا الاختراق لن يتم ما لم يرافقه الحديث بوضوح عما سبقت الإشارة إليه من ثنائيات، وخصوصا مشروع الدولة التي يتبناها التيار، هل هي دولة الشرعية الراهنة، أم دولة الحوثيين الراهنة، أم دولة هجينة من الطرفين، أم دولة جديدة مختلفة عنهما، وهل يتمسك التيار بنتائج حرب 1994م كما فعلت كل التيارات التي رافقت أو خاصمت نظام صالح على مدى ربع قرن، وما رؤية التيار لحل القضية الجنوبية؟، وما موقفه من مشروع الدولة الجنوبية القادمة، وما يدعو إليه الجنوبيون بـ"العودة إلى نظام الدولتين"؟.
أعتقد أنه في المعتركات السياسية الجادة لا يوجد مجال لمحاباة الأطراف المتصارعة كلها أو الوقوف بينها في "منزلة بين المنزلتين"، ففي القضايا المفصلية لا مجال للتعامل باستحياء أو بمجاملة ومراضاة، وأي موقف كهذا لا يساعد صاحبه على النجاح بل يكون وسيلة مثلى للفشل.
ومع ذلك لنأخذ بمقولة الشاعر العربي الشهير طرفة بن العبد
ستبدي لكَ الأيّامُ ما كُنتَ جاهلًاً
ويأتيكَ بالأخبار مَنْ لمْ تُــــزوّدِ.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك.