عادت الإمامة من عمق التاريخ إلى صنعاء وسيقبلها قادة العالم وقادة التحالف بصورة رسمية طوعاً وكرهاً بعد أن واجهت قراراتهم وطائراتهم وتمسكت بالأرض.
بينما انحشرت "عاصفة الحزم" في نفق الشرعية وفي سراديب الأدوات الخاصة السعودية، وتحولت معها المناطق المحررة إلى وعاء يابس يملؤه الفقر والظلام.
وعلى مسار مواز تركت قوى وأحزاب شمالية معركتها الحقيقية ووجهت بوصلة الصراع نحو الجنوب تستحضر 94 بمزايا إعلامية لم تكن متوفرة في ذلك التاريخ.
لقد أدرك الجنوبيون خلال السنوات الأخيرة من مجريات الحرب أنهم عالقون بين هاويتين: دوامة الاستنزاف في جبهات مختلفة وانهيار مستمر لمقومات الحياة الأساسية..
لكنهم منذ البداية لم يحددوا مساراً موضوعياً للتخفيف من الحالة الضبابية المفخخة بالصدف والمفاجآت والمخاطر، ولم يستثمروا ما يكفي لمقاومة الانجراف الذي فُرض عليهم قبل أن تتعزز مخاوف بأن يصبح الجنوب من الناحية العملية هدفاً ميدانياً مشتركاً.. "كل الاضداد ضده وكل الفرقاء فريق واحد يجتمع عليه".
وبعيداً عن القناعات المطاطة وعن بورصة التشاؤم والتفاؤل، فإنه لا يمكن إغفال حقيقة أن "الوضع الميداني يفرض شروط التسويات".
وهذا يدعم الفرضية القائلة بأن قضية الجنوب في مشهد التفاعلات الجارية والحديث عن السلام لا تبدو منظورة من الزاوية التي تعكس تطلعات الجنوبيين أو أنها ستأخذ حجمها الطبيعي، لأن واقع اليوم سيقدّم الجنوبيين بأنهم أصحاب أرض مجزأة ومقسّمة وليس لقضيتهم أي "معامل" في قوانين الحركة عند الامريكان والسعوديين وكل أطراف الصفقة/ الصفقات المحتملة حول اليمن والتي ستتعامل مع الجنوب باعتباره "ضحية مرشحة" يمكن استمالته بالضغط خلف وهم الحلول الشاملة التي تخضع في المقام الأول لإرادات الخارج وتراعي مصالح الأطراف الإقليمية المتنازعة.
أي أن الجنوب سيصبح (جرما تائها) في فلك المساومات ما لم يفهم المجتمع الدولي بأن المساس بحقوقه لم يعد أمراً ممكناً وأن لديه ما يكفي لتعديل الميزان على الأرض إذا تطلب الأمر.
وهذا الأخير هو ما يؤرق الجنوبيين اليوم وسط فرضيات متعددة حول الموقف السعودي الذي بات يثير قلقهم وأدى إلى تحول دراماتيكي في المزاج الشعبي تجاه المملكة، وصل إلى تحذير القيادات الجنوبية من حكاية "الإخلاص المطلق" لها خاصة وأن تداعيات اتفاق الرياض الذي وصل الى طريق ضيق للغاية تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى عدم حيادية المملكة وميولها الدائم للضغط على جانب واحد بكل الوسائل وإلى (الصمت) عن إفراغ عدن بالذات من كل مقومات الحياة المدنية وتعطيل قدرتها لأن تصبح عاصمة جنوبية.
هذا بالإضافة إلى أن هناك ما يشير بأن المملكة لديها "خطة خروج" تتوافق في نهاية المطاف مع جهود الولايات المتحدة (المباشرة) في الملف اليمني، ولديها شركاء جدد داخل البيت الخليجي لترتيب مساعيها وصفقاتها.
وهكذا يتمحور السؤال حول قدرة الجنوبيين على احتواء المتغيرات وإيجاد البدائل الداخلية الممكنة للدفاع عن أرضهم في حال تعثر جهود التوافقات، وانهيار الثقة بالحليف بعد أن راكمها الخيال السياسي الجنوبي منذ العام 2015.
فلماذا إذاً لا تتم مراجعة المقاربات التي تتصادى فقط مع ظروف التحالف وأهدافه، وإعادة ترتيب الأوراق؟
هل هو الضباب الكثيف الذي يجعل الخطى مثقلة بالبطء في تقييم تجربة لم تكن مأمونة العواقب؟
لماذا لا تكون هناك مصارحة تؤكد أن الجنوبيين لم يقعوا في خانة الأدواتية كي يحاربوا عدواً مشتركاً خارج حدودهم، بينما المملكة تدعم من يحاول سحقهم على أراضيهم؟
هل يحتاج قول هذه الحقيقة إلى عمل ثوري؟
إن الحالة الجنوبية، وهي على عتبة غامضة بين حروب مشتعلة وسلام عائم فوق فرضيات متباينة، تتطلب في المقام الأول الاستعداد العملي، وترتيب البيت من الداخل وتأهيله لمواجهة كل الاحتمالات، والبدء بالحوار الجاد.
فالوحدة الداخلية إن تصان لا خوف من أي شيء آخر.. ولن تصان إلا بالانفتاح والشراكة على ارضية الأهداف المعلنة منذ انطلاق مسيرة الحراك.
لقد أثبتت كثير من التجارب أن حل أي قضية لا بد أن يبدأ من الداخل أولاً وان الشعب الغني بتضحياته لا يبحث عن "القمح في حقول الآخرين"، ولا يستعطيهم بالكف وبالفم... بل عليه اتخاذ خطوات ثابتة وصائبة بهدف لملمة قواه ونخبه وموارده وتحرير إرادته.