تلقيت عصر يوم الخميس تعليقا على مقالي الموسوم ب: (القرشية ودعاوى الحق الإلهي) من قبل الأخ المستشار احمد علي جحاف، فعقبت عليه، ومما قلت في تعليقي، بأن البشرية لم تنعتق من الحروب الدينية إلا بعد ان توصلوا إلى نظام يكفل عدم استغلال الدين في الأهواء السياسية، وهناك من يقول انهم توصلوا الى ذلك ليس بسبب تلك الحروب التي حصدت ملايين البشر فحسب، بل بالاسترشاد بفكر من كانوا يطلقون عليهم كفارا وهم علماء المسلمين من امثال الإمام الغزالي وابن رشد وابن المقفع وغيرهم.
واكدت له أن غياب نظرية الحكم في الاسلام كانت سببا في التراجع عن قيم الاسلام وحرية الاعتقاد، وغياب الدولة الدينية التي نسفها الإسلام ومحا أثرها، وذكرت له ان الرسول حذر من اقحام السياسة في الدين، واعتبر ان السياسة هي العروة الأولى من عرى الاسلام بل واولها نقضا: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي يليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة).
ولقد تحقق في العصر الحديث شبه إجماع كوني على اعتبار الديمقراطية الليبرالية النموذج الأسمى للنظام السياسي، وأن اكتمال حركية التاريخ تتجسد في الدولة الليبرالية الحديثة.
وحتى لو لم ينجح النظام الليبرالي على المستوى الواقعي في عدة مناطق؛ إلا انه أصبح النظام السياسي الأكثر شرعية، ولا يوجد مشروع أو بديل ايديولوجي او سياسي له الإمكانيات الكافية لتحديه.
فقد أصبحت الديمقراطية الأفق الأسمى الذي يتطلع إليه البشر والذي سينتهي إليه كل نظام اجتماعي كيفما كانت طبيعته وولاءاته الايديولوجية والقيمية.
فمن بين مختلف الأنظمة السياسية التي ظهرت عبر التاريخ الإنساني من الملكيات إلى الارستقراطيات وحتى الأنظمة الثيوقراطية والفاشية والشيوعية، يبقى الشكل الوحيد للحكم الذي حافظ على اكتماله وصدقيته حتى نهاية القرن العشرين هو النظام الديمقراطي الليبرالي.
لكن؛ لماذا سيصبح النظام الليبرالي هو الأساس للانخراط في التاريخ الكوني وتحقيق الدولة العالمية الليبرالية؟
يعتقد فوكوياما في نظريته الموسومة ب: "نهاية التأريخ" مقتفياً خطوات كانط، هيغل، ماركس، بوجود تاريخ كوني موحد للإنسانية يختزن تجارب كل الأزمنة والشعوب، وهذا التاريخ يتجسد اكتماله حين يتحرر من التناقضات والصراعات وتحقق الإنسانية شكلاً مجتمعياً يستجيب لرغباتها الأساسية.
ويرى فوكوياما ان التناقضات الجوهرية في المجتمعات الغربية الحديثة قد انتهت، فلم تعد هناك مشكلات أساسية لم تجد لها حلاً داخل المنظومة الليبرالية الحديثة، وهذا ما يعد بقدوم عصر الدولة العالمية المنسجمة والتي يعتبر تكوين هيئة الأمم نواتها الأولى، والاتحاد الأوربي اول تجلياتها.
إن الدولة العالمية الليبرالية لن تعرف تناقضات كبرى ورغبات الإنسان سوف تعرف الإشباع الكلي.
لذلك، لن يكون هناك صراعات حول قضايا جوهرية أو أسئلة كبرى تهم مستقبل البشرية.
فلن يحدث في عصر نهاية التاريخ أي تطور نوعي في ما يخص المبادئ والمؤسسات والقيم الأساسية المتحكمة في المجتمعات الليبرالية، ولن تكون هناك حاجة إلى رجال السياسة والعسكر، بل فقط إلى موظفين إداريين وتكنوقراط لتدبر النشاط الاقتصادي.
ولن يصنع الإنسان التاريخ في هذا العصر، حيث سيفقد كل روح ثورية للتفاعل مع التاريخ لتغييره وتطويره وسيقنع فقط بالحفاظ على الوضع القائم.
واستمرار بعض المشكلات كالقوميات والأصوليات الدينية والأنظمة الاستبدادية في الوقت الحاضر يرجع إلى أن مجموعة من المجتمعات ما زالت تحاول بكل جهدها للالتحاق بالمجتمعات التي دخلت مرحلة ما بعد التاريخ.
لكن، ألا يوجد بدائل أيديولوجية وفكرية بإمكانها تحدي النظام الليبرالي؟
يرى فوكوياما انه بعد انتصار الليبرالية على منافستيها الأساسيتين الفاشية والشيوعية لم تعد هناك تحديات حقيقية كفيلة بمنافسة النظام الليبرالي، ويعتبر أن الأصوليات الدينية والتيارات القومية تحديات ثانوية قد يخلقان بعض المشاكل لكنهما يفتقدان العالمية والشمولية.
ويركز فوكوياما كثيراً على الإسلام السياسي، حيث تعتبر الأحزاب الدينية في الدول الإسلامية تتطلع لبناء دولة عالمية تقسم العالم إلى فسطاطين -فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان- وهذه الأحزاب الإسلامية مجموعات تعيش خارج التاريخ الحديث وليس في العالم المعاصر غير الجماعات والأحزاب الإسلامية يطرحون النظام الثيوقراطي كبديل للنظام الليبرالي.
وعلى الرغم من كون الإسلام يشكل نظاما ايديولوجياً منظماً له منظومته الأخلاقية ونسقه الاجتماعي والسياسي الخاص ودعوته دعوة عالمية تخاطب كل الناس متجاوزة كل الحدود الإثنية والوطنية، وعلى الرغم من انه انتصر على الديمقراطية الليبرالية في عدة مناطق من العالم الإسلامي إلا انه في اعتقاد كاتب هذه السطور لا يمتلك جاذبية وقبولاً كبيراً خارج العالم الإسلامي.
وعلى المدى البعيد سيكون العالم الإسلامي أكثر قبولاً للأفكار الليبرالية.
ولهذا يحاول الأصوليون الإسلاميون التنديد بالنفوذ المتزايد للقيم الغربية في المجتمعات الإسلامية.
وعلى إثر ذلك ازداد تأثير فوكوياما على اعتبار الإسلام المنظومة الثقافية الوحيدة التي تعادي الحداثة والقيم الليبرالية.
ويقول في هذا الإطار: يبدو انه يوجد في الإسلام أو على الأقل في الإسلام الأصولي شيء ما يجعل المجتمعات الإسلامية معادية للحداثة، من بين جميع الأنظمة الثقافية المعاصرة يحتوي العالم الإسلامي اقل عددا من الديمقراطيات ولا يحتوي على أية امة استطاعت الانتقال من وضع الدول الفاشلة إلى الدول المتقدمة.
ربما "فوكوياما" ليست له لا الرغبة ولا المصلحة في البحث الدقيق والكشف عن الأسباب الحقيقية التي تجعل العالم الإسلامي لا ينجح في التحديث الحقيقي، كما أن هناك تخوفاً من المسلمين على اعتبار أنهم من بين الشعوب الأكثر رفضاً للآثار السلبية للقيم الليبرالية الغربية، وهذا لا يعني رفضاً للحداثة والتحديث، بل السعي إلى التحديث بدون السقوط في التغريب المفرط.
وبالفعل نجد أن الاسلام السياسي يؤكد للعالم صحة نظرتهم القاصرة للدين الاسلامي الذي أنزل رحمة للعارفين بربهم.
وقد توصل فوكوياما إلى ان الليبرالية قطار بدأ يتجه إلى الأمام، وان الدول في العالم ستتبعه وتجري خلفه، كما قال بأن الليبرالية ليست النظام الأمثل إلا انها ستكون كذلك طالما وهناك من ينتقدها.
نعم.. فالنقد وبالنقد البناء تتطور الحياة وتمضي البشرية نحو تحقيق الإنسان الكامل وفقا لنظرية المعتزلة واخوان الصفاء، حتى تتحقق الدولة الكونية.
فبدون النقد او بلغة القرآن النفس اللوامة التي اقسم الله بها لرفعة مكانتها، لن تقوم للمسلمين قائمة.
وبهذا يتحقق الغاء التنابذ بين سنة وشيعة وروافض ونواصب.
فقبح الله الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، فليسوا من دين محمد في شيء.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك