تزداد تعقيدات الحرب اليمنية صباح كل يوم، كنتيجة منطقية للارتباك الذي صاحبها، وحذر كثيرون منذ بداياتها من أنها غير قادرة بمفردها على إنجاز أهدافها، لأن الأوضاع الداخلية اليمنية شديدة التعقيد بفعل عوامل ذاتية وأخرى موضوعية.
اليوم، بعد مرور ما يزيد على ست سنوات تزداد الصورة تشوشاً بحثاً عن النهاية المرضية للجميع، على الرغم من زعيق القوى المنخرطة في الحرب بأن الخيار الوحيد الممكن والمتاح هو الجلوس إلى طاولة مفاوضات، لكن هذا الأمر يعرقله تمسك كل طرف بما لديه من سند تختلف قوته الفعلية على الأرض.
ففي حين يتمسك الرئيس، عبدربه منصور هادي، بدعم من المملكة العربية السعودية وبالوثائق الثلاث (المبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني، وقرار مجلس الأمن الشهير 2216)، تصر "جماعة أنصار الله" الحوثية على استخدام القوة العسكرية التي تمتلكها كورقة مقايضة، لتحقيق مكتسبات سياسية دائمة تتيح لها شراكة قوية في أي نظام سياسي مقبل.
أما الطرف الثالث وهو المجلس الانتقالي الجنوبي فقد أضحى شريكاً للرئيس هادي في السلطة، واعترف بها ممثلاً لكتلة جنوبية كبيرة.
ما أكرره دائماً هو أن الضعف الذي يعتري أداء حكومة الرئيس هادي يمثل عقبة شاقة أمام صدقية تمثيلها الشرعية الدستورية التي لا تهم المواطنين وحدها، لأنها لم تكن مقرونة بالنزاهة والوجود المستدام على الأرض.
ومن هنا، فإن الشرعية لن تتمكن من التفاوض من موقع يمكنها من تطبيق المرجعيات الثلاث ما لم تتمكن أولاً من استعادة ثقة اليمنيين، ولن يكون كافياً لها التعويل على دعم التحالف السياسي والمالي والعسكري.
والأهم، مرحلياً، هو التوصل إلى أي صيغة تسمح للحكومة بالعودة إلى ممارسة أعمالها من داخل البلاد، لأن بقاءها في المهجر يزيد من عجزها ونقمة الناس عليها.
في الطرف المقابل، فإن استنزاف الوقت بحثاً عن بدايات لمسار السلام يصب في مصلحة "جماعة أنصار الله" الحوثية، إذ تواصل حملتها العسكرية في مأرب وحصارها المدخل الشمالي لمدينة تعز وتثبيت مواقعها في المناطق التي توجد فيها منذ 2014.
ولما كانت الحرب الدائرة قد عجزت عن إضعافها فمن غير المحتمل قبولها بشروط ونتائج مفاوضات لا تضمن استمرار نفوذها وشراكتها في الحكم.
الطرف الثالث، المجلس الانتقالي الجنوبي، هو الآخر لديه مشروع خاص يتناقض كلية مع الطرفين الأولين، ولا أجد فيه منطلقات مشتركة يمكن البناء عليها مع أي منهما، إلا أنه يعلن في واقع الحال رفضه المطلق فكرة الدولة اليمنية الواحدة إلا كوسيلة مؤقتة لتحقيق أهدافه النهائية بفك الارتباط.
اليوم، أصبح التوصل إلى وقف هذه الحرب فوراً ضرورة إنسانية ملحة للذين يعيشون تحت وطأتها منذ ست سنوات، ولم تعد المطالبة بذلك ترفاً ولا مزايدة، في وقت يشهد الجميع آثارها المدمرة على حياة الناس وأوضاعهم المعيشية، والأخطر أنها تزيد من اضطراب وتعطل فكرة السلام المستدام.
وعلى الرغم من قناعة كثيرين بأن وقف الحرب من دون انكسار الحوثيين لن يسمح باستقرار دائم، فإن السؤال الذي يجيب عن هذا المنطق هو: كم الوقت الإضافي وحجم الدماء المطلوب لنصل إلى نتيجة مقنعة للراغبين في استمرارها؟
حين يتوصل كثيرون إلى استنتاج مفاده أن أفق السلام صار أقرب إلى الانسداد الكامل منه إلى الانسياب، فمرد ذلك أن الأرباح المادية والشخصية التي يجنيها من يستطيعون إنهاء الحرب قد تضخمت إلى حد صار إقناعهم بالعمل على طرق سبل السلام صعباً للغاية، ما لم تكن أمامهم محفزات تغريهم على الدخول في مسار استعادة سلم المجتمع الذي انقسم بخطوط مذهبية وسلالية ومناطقية على نحو غير مسبوق في تاريخ الحروب اليمنية، وتمزق مفهوم الوطن الواحد الذي يعيش في ظله الكل بقانون واحد يلغي هذه الشروخ التي تتسع كل يوم.
اليمن اليوم يسقط في هاوية من الصراعات التي لا أجد نفسي مقتنعاً بأن وهم النصر، إذا ما تحقق لأي طرف، سيعني بداية طريق جديد يسير بالبلاد نحو أهداف تعيد إلى اليمن هدوءه الاجتماعي الذي تعايش معه الناس على الرغم من مرور فترات عصيبة، لكنها كانت في الماضي سرعان ما تجد حكمة قيادات تاريخية نزيهة المقاصد والغايات ترفع من الشأن الوطني، مستبعدة أوهام القدرة على الانفراد بالحكم وقسر الناس على تقبل قوانين المنتصر التي تُصاغ وتُفصّل على مقاس المنتصرين، ولكن سرعان ما يصطدم هؤلاء بمجتمع يرفض سلوكهم.
إن ما نشاهده اليوم من ممارسات سلطة "جماعة أنصار الله" الحوثية في مناطقها لا يعطي مؤشراً إلى أنها مستعدة للتنازل عن مفهومها للحكم، الذي تطبقه بنفس مذهبي لا يمكن أن تفرضه ولن يتقبله الناس إلا مكرهين.
ولعل في التغييرات التي تدخلها على مناهج التعليم والمعسكرات الصيفية للأطفال، ما يعطي مؤشراً على أنها لا تتوقع تغييراً في مسار الحرب لغير مصلحتها وبما يمكنه أن يبعدها عن السلطة بالقوة.
في الجانب المقابل، فإن الوضع في المحافظات الجنوبية التي يزعم المجلس الانتقالي أن له فيها الحصة الكبرى من المشروعية، يسوده خطاب مناطقي متنام هو نقيض كامل للغة حكومة الرئيس هادي، على الرغم من مشاركته فيها بموجب اتفاق الرياض.
تختلف فكرة السلام عند المتحاربين وتتناقض معاييرها وأهدافها عند كل أطراف الحرب، ولا يجمع بينها أي مشترك وطني إنساني سوى الرغبة في التخلص من الطرفين الآخرين وهزيمتهما.
وهكذا للأسف تصبح آفاق السلام المسدودة ماثلة أمامنا، ويصبح من الطبيعي أن نتساءل عن مآلات استمرار الحرب وكيف ننتهي منها؟
إن أي حديث عن مسار سلام صار مثل الأحاجي التي تحتاج إلى قيادات تؤمن به أولاً، وتسعى إليه حتى تصبح قادرة على فك ألغازه.
وقبل هذا وبعده، عليها أن تبتعد عن الأنانية والجشع والإصرار على إقصاء الآخر المختلف، وأن تسقط النظرة الضيقة لمفهوم الوطن والمواطنة.
ولكن، من الجلي أن اليمن يفتقد القادة العظماء، مثل النعمان والإرياني والزبيري، الذين قدموا الوطن على مصالحهم الشخصية وتنازلوا عن السلطة مراراً، ولم تكن الوظيفة العامة عندهم إلا لخدمة الناس وليس لاستخدامهم .
*نقلا عن أندبندنت عربية