الدكتور حمود العودي يكتب: الأسباب الاجتماعية والسياسية لظاهرة الجريمة (1)

تقارير - Friday 10 April 2020 الساعة 03:09 pm
نيوزيمن، أ.د/ حمود صالح العودي:

كثيراً ما يتم تناول الظاهرة أو الظواهر الاجتماعية والمشكلة أو المشاكل الاجتماعية كمفاهيم شائعة في الثقافة العامة للكثير من الناس، إلا أنه لو سئل أي منهم أن يقدم التعريف العلمي والموضوعي المفيد والمقنع لنفسه ولغيره لمعنى الظاهرة الاجتماعية أو المشكلة الاجتماعية، لما وجدنا ذلك بسهولة حتى عند بعض المتخصصين في علم الاجتماع.

أولاً: المفاهيم العامة للجريمة كظاهرة اجتماعية

وكذلك هو مفهوم الجريمة الاجتماعية، والذي بالرغم من وجود التعريف القانوني لها بصورة أو بأخرى كنص جنائي محدد وبعقوبة محددة، إلا أن المفهوم الاجتماعي للجريمة يختلف كثيرا عن التعريف والمفهوم القانوني الجنائي لها، وهو الأمر الذي يستلزم معه في بداية هذه الدراسة تقديم التعريفات والمفاهيم الاجتماعية المعتمدة في علم الاجتماع بشكل عام وعلم اجتماع الجريمة على وجه الخصوص لكل من الظاهرة الاجتماعية والمشكلة الاجتماعية والجريمة الاجتماعية، عملا بالمقولة المنطقية القائلة بأن الأشياء قد تعرف بمسمياتها لكنها لا تفهم إلا بتعريفها وعلى النحو الآتي:

1- مفهوم وخواص الظاهرة الاجتماعية

الظاهرة الاجتماعية هي كل فعل أو قول أو تفكير أو سلوك يصدر عن جماعة بالتفاعل مع بعضها البعض أو مع غيرها من الجماعات ومع البيئة والمكان والزمان الطبيعي المحيط بها، وأن مجموعها -أي الظواهر الاجتماعية- هو مجموع أفعال وتفكير وسلوك الجماعات البشرية تجاه بعضهم البعض؛ ومع المكان والزمان المحيط بهم عبر المكان والزمان غير المحدود، منذ أن بدأ دبيب الإنسان على هذه الأرض وإلى ما شاء الله.

غير إن هذا التعريف أو المفهوم للظاهرة الاجتماعية المتصف بالعموم والشمولية الزائدة كما يبدو لأول وهلة سيصبح أكثر دقة وتحديدا وموضوعية وعلمية حينما نعرض لخواص الظاهرة الاجتماعية وفقاً لمؤسس علم الاجتماع الحديث "أميل دور كايم" أو الحقيقة التاريخية وفقا لابن خلدون المؤسس الأول لعلم الاجتماع أو علم العمران كما أسماه، قبل أربعة قرون من مؤسس علم الاجتماع الحديث مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين العالم الفرنسي "اميل دور كايم" الذي يحدد خواص الظاهرة الاجتماعية باعتبارها الجذر الجبري لعلم الاجتماع ( ) على النحو الآتي:

أ. "أنها شيئيه":

أي أن الظاهرة الاجتماعية كمفرد والظواهر الاجتماعية بالمطلق كجمع هي أشياء قابلة للقياس الكمي والكيفي، ككل الأشياء المادية، بل إنها كذلك شيء مادي في جانب أساسي منها كأي شيء، وكل الظواهر الاجتماعية بدءاً بالجريمة التي يمكن قياسها كماً وكيفاً باعتبارها مجموعة أفعال واقعية وأدوات وأشياء في زمان ومكان معين مرورا بالزواج والطلاق والثأر وحتى الحرب والسلام والدولة والدين وإلى ما لا نهاية من ظواهر الفعل والسلوك الاجتماعي للجماعات البشرية تجاه بعضها البعض وفي المكان والزمان المعين، وبصرف النظر عن حسنها أو قبحها.

ب. أنها تتمتع "بقوة الجبر والإلزام":

"نعم" الظاهرة الاجتماعية لها من السطوة والقوة الإلزامية على سلوك الفرد والجماعة ما يتجاوز أي قوة أو إلزام آخر بما في ذلك قوة وإلزامية سلطة النظم والقوانين الرسمية، ممثلا ذلك بقوة "الضبط الاجتماعي" المنظم لتفاصيل حياة أي جماعة، والذي لا تعتبر السلطة والقوانين الرسمية إلا أحد مظاهره وأقلها ثباتا وإلزاما للفرد والجماعة، فإذا كان القانون الرسمي يجعل من تجاوز إشارة المرور الحمراء، جريمة أو مخالفة من السهل ارتكابها فإن قوة الضبط الاجتماعي هي التي تجعل من المحال على رجل أن يدخل مجلس الرجال بملابس نسائية وعلى امرأة أن تقتحم مجلس النساء بملابس الرجال، وعلى قاض أن يعتلي منصة القضاء حافي القدمين أو مدمن القات والسجائر أن يتخلى عن ذلك فجأة وبسهوله. وهكذا إلى ما لا نهاية من ظواهر الأفعال والسلوك في حياة البشر سواء مما يقع تحت طائلة القوانين الرسمية وهو القليل قياسا بما لا يحد مما يقع تحت طائلة قوة الضبط الاجتماعي غير الرسمي من أفعال وسلوكيات تنظيم حياة الناس جماعات وأفراداً، بل إن القوانين الرسمية ليست إلا الجزئية الأقل والأضعف من ظوهر الجبر والإلزام الاجتماعي الذي هو مصدرها أصلاً.

جـ. خاصية "الشمول والانتشار ":

بمعنى أن الظاهرة الاجتماعية أيا كانت لا بد وأن تتصف بخاصية العموم والانتشار في جماعة أو مجتمع أو أكثر، ولا يمكن أن تكون خاصية فرد بذاته أو واقعة بذاتها، فالجريمة والسرقة والتدين والحب والكراهية وإلى ما لا نهاية من أفعال وسلوك البشر هي تسميات وصفات لظواهر اجتماعية تتصف بالعموم والانتشار ولا يخلو منها أي مجتمع، وما لم تتصف الظاهرة بمثل هذا الشمول والعموم في مجتمع معين على الأقل؛ فلا ينطبق عليها مفهوم الظاهرة الاجتماعية، فلو حدث أن قام شخص في السويد أو النرويج بقتل آخر ثائراً منه لقتل ابنه أو أخيه بحادث سير غير مقصود؛ أو قام شخص آخر في اليمن بعملية انتحار قبل ثلاثين أو أربعين عاماً من اليوم؛ لما جاز قط وصف مثل هذه الحوادث بالظواهر الاجتماعية؛ لأنها حوادث فردية منقطعة لا ترقى لمستوى الظاهرة الاجتماعية الممتدة؛ فلا ظاهرة اجتماعية عامة للثائر في السويد أو النرويج، ولا ظاهرة الانتحار كانت عامة أو موجودة في اليمن في ذلك الزمن؛ رغم أنها قد صارت اليوم ظاهرة اجتماعية منتشرة وعامة.. والعكس بالعكس صحيح بالنسبة للثائر كظاهرة اجتماعية قديمة جديدة في السلوك الاجتماعي اليمني؛ بينما ظاهرة الانتحار منتشرة في الدولتين الآنفتي الذكر والمجتمعات الصناعية ككل؛ لأسباب اجتماعية أخرى ليس هذا مجالاً لتحليلها أو الحديث عنها.

د. خاصية "الاستمرار في المكان والزمان":

أي أن الظاهرة الاجتماعية أيا كانت لا بد وأن تتمتع بصفة الاستمرار الممتد في الزمان والمكان، وليست قط حادثة آنية أو عرضية محدودة الزمان والمكان والإنسان، وذلك ما يمكن ملاحظته على ظاهرة الجريمة الممتدة بامتداد زمان ومكان الإنسان من واقعة هابيل وقابيل وحتى يوم الناس هذا، وذلك ما ينطبق على الكثير من الظواهر الاجتماعية إلى هذا الحد أو ذاك.

هـ. خاصية "النسبية":

فالنسبية هي من أهم وأبرز خواص الظواهر الاجتماعية، فليس كل الظواهر أبدية ثابتة ولا عرضية طارئة، بل هي نسبية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فمن الظواهر الاجتماعية ما هو ممتد امتداد تاريخ الإنسان كالأسرة والزواج والحب والكره، لكنها تختلف من جهة الشكل والمضمون والدرجة، ومنها ما قد يظهر ويختفي في فترات زمنية محدودة كألعاب الأطفال الموسمية، ومنها ما قد يوجد في مجتمع ولا يوجد في غيره، كتعاطي القات في اليمن مقابل الخمرة في غيره، وحرق الموتى في الديانة البوذية مقابل تغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم عند المسلمين، ومن الظواهر ما قد ينتشر في جزء من المجتمع الواحد وليس في عمومه كما في ظاهرة فن "الدان" في حضرموت و"مهرجان النخيل" في تهامة و"كرنفالات أعياد عرفه" في يافع والمناطق الوسطى، وكذلك هي الجريمة واختلاف نوعها ونسبة انتشارها وخطورتها من مجتمع لآخر.

و. خاصية "التلقائية":

من أهم وأبرز خواص الظاهرة أو الظواهر الاجتماعية بشكل عام هي "التلقائية" في الظهور والانتشار والاستمرار أو الاختفاء والتراجع، بحيث لا يمكن ربط ظهور أو اختفاء أي ظاهرة اجتماعية بقرار إداري من فرد أو جماعة أو حتى دولة كتشريع رسمي بقدر ما أنها تبرز كنتاج للعقل والسلوك الجمعي للناس أومن بدايات فردية أو جماعية من الصعب جداً تحديدها أو نسبتها لفرد أو جماعة بعينها، رغم أنها قد تكون كذلك بالضرورة حيث يكون من المستحيل القول بمن هو أول من زرع شجرة القات في اليمن أو سن احتفالات الزواج وفنون الرقص والغناء وطريقة خياطة وارتداء ملابس الرجال مقابل النساء، وحتى من بدأ الثأر وطرق وعادات طبخ وتناول الطعام بأشكال مختلفة من مجتمع لآخر... الخ... الخ.

هامش
1- يقال علمياً بأن لكل علم من العلوم جذرا جبريا يرتكز عليه، فالرقم من (1/9) هو الجذر الجبري لكل العلوم الرياضية، "والنواة أو الذرة هي الجذر الجبري لعلم الفيزياء"، "والخلية هي الجذر الجبري لعلم البيولوجيا"، و"الحركة" لعلم الميكانيكا... الخ. وكذلك الظاهرة الاجتماعية بالنسبة لعلم الاجتماع.

.. يتبع